لا أعرف لماذا لا يجد أغلب الناس في وطننا حلولا أو إمكانيّات خارج عبادة الأشخاص والبطولات المفترضة في ما إنقضى من التاريخ. ربّما هي حالة مرضيّة أصابت الوعي العربي ـ الذي لا يمكن إعتباره في العمل السياسي سوى لا وعي ـ ولكن توجد أيضا أسباب أخرى. طبعا هذه الحالة ليست وصفا للمتزمتين الدينيين فحسب، فقد تحدثت عنهم بما يكفي، ولكن يتعلّق الأمر بالمتزمتين السياسيين أيضا، خاصة القوميين والشيوعيين منهم.
أما الشيوعيون فقد كانت الإجابة لهم واضحة في العشرين سنة الماضية بانهيار جدار برلين والإمبراطوريّة السوفياتيّة سيئة الذكر التي تفخر بأنها قتلت من أبنائها أكثر ممن قتلت من أعدائها. ولا شيء يعبّر عن وضع الشيوعيّة اليوم أكثر من كوبا و كوريا الشماليّة والصّين، حيث لا قيمة تذكر للإنسان. وما لم يلتزم الشيوعيون بمشروع جديد يمثّل نقلة نوعيّة في التنظير، فإن دورهم سيبقى هامشيا رغم أن ذلك لايمثل نقصا في وطنيتهم بقدر ما هو فشل أيديولوجي. ولكن فيما يخصّ القوميين فالوضع مختلف : فدعايتهم على طريقة السوفيات أنقذتهم من موت أفكارهم في السبعينات فهاهم يعودون ليبدأ الإزعاج من جديد.
ولكن ما معنى القوميّة العربيّة؟ هل هي التآزر و التضامن والتنسيق المشترك وتبادل الخبرات بين الدول التي تصنّف نفسها عربيّة؟ هل هي مجرّد حركة عرقيّة تافهة بقدر تفاهة النازيّة والتمييز العنصري؟ هل هي مشروع بناء دولة واحدة تضمّ كلّ الناطقين بالعربيّة؟ ربّما حتّى القوميون أنفسهم لا يعرفون. ولكنني أعتقد أن القوميّة هي مزيج من كلّ هذا ومن أشياء أخرى.
حين ننظر بطريقة سطحيّة بسيطة إلى أحداث القرن العشرين نستطيع أن نقسّم المرحلة التاريخية للقوميّة العربيّة إلى ثلاث مراحل :
• مرحلة التنظير : النصف الأوّل من القرن العشرين
• مرحلة التطبيق : الخمسينات والستينات
• مرحلة الإنهيار والتراجع : بداية من 1967
يرتبط هذا التقسيم البسيط بمجموعة من الأحداث لا يمكن تجاهلها : فصعود جمال عبد الناصر إلى الحكم في مصر إثر الإنقلاب على الملك سنة 1952 مثّل أهمّ قفزة نوعيّة للقوميّة العربيّة. وكانت هزيمة 1967 المفاجئة التي أدّت إلى أزمة في حكم عبد الناصر إيذانا بسقوط المشروع القومي وبداية سياسة أقلّ راديكاليّة في الدّول العربيّة، على المستوى الخارجيّ على الأقل.
لا يمكن أن نتجاهل أيضا دور حزب البعث في تبلور القوميّة العربيّة، بقيادة مؤسسه وفيلسوفه ميشيل عفلق. ففي دستور البعث هناك مبدأ غير قابل للمساومة، هو أن العرب يمثّلون دولة واحدة لا يمكن تقسيمها لأيّ إعتبارات سياسيّة أو إقتصاديّة. وقد يتّفق أغلب الباحثين على أن مشروع الوحدة السياسيّة أساسا هو لبّ حركة القوميّة العربيّة، فلا معنى لهذا المفهوم مادام العرب منقسمين في دول ودويلات وممالك.
طبعا هذه المبادئ السياسيّة كانت إيذانا بنهاية مرحلة التنظير فقد صيغت هذه المبادئ سنة 1947. وإلى حد ما تبنى الناصريون نفس المبادئ الأساسيّة للفكر القومي إثر وصولهم إلى السلطة. قد يعطي هذا التأريخ إحساسا بأن القوميّة أكثر حداثة من الإتجاهات الأيديولوجيّة الأخرى : فقد ظهرت الشيوعيّة أواسط القرن التاسع عشر في حين تبلورت الليبراليّة في شكلها المعاصر أوائل القرن العشرين. ولكن هذا الرأي لا يبدو نزيها، فالشيوعيّة و الليبراليّة الرأسماليّة منتجان غربيّان أساسا، وقد يفيد أن نعرف أن مرحلة القوميّة في الغرب كانت أقدم بكثير حيث إرتبطت أساسا بالقرن السادس عشر. ولكن الحركة القوميّة العربيّة مختلفة تماما عن القوميّة بمفهومها الغربي والتي ظهرت أساسا كردّة فعل مباشرة لسيطرة الكنيسة وكنتيجة لظهور البروتستانتيّة.
من أهم المعلومات التي وجبت سياقتها حول القوميّة العربيّة هو أنها لم توجد فكريّا بمعزل عن الواقع السّياسيّ : فالقوميّون الذين نادوا بتحرر الوطن العربيّ من الإمبراطوريّة العثمانيّة قبل إنهيارها سنة 1914 هم قلّة نادرة. ولا عجب أن أهمّ قضيّة سياسيّة للقوميين أثناء المرحلة النّاصريّة هي القضيّة الفلسطينيّة إلى درجة أصبحت معها السياسة الداخليّة برنامجا ثانويّا. ومن الكوارث التي أصابت القومية تحوّل حزب البعث بشقّيه السوريّ والعراقي إلى مرحلة الديكتاتورية والفساد في السبعينات لينتج أسوأ نظامين عربيين معاصرين، ولتصبح القوميّة نفسها مجرد قضيّة ثانويّة بالنسسببة للنظامين المذكورين.
كذلك أثبتت مرحلة الوحدة أو ما يعرف بالجمهوريّة العربيّة المتّحدة مدى صعوبة توحيد ما يعتقده القوميّون شعبا واحدا مقّسم في عدّة دول. وأدى هذى الفشل إلى أوّل مواجهة بين الأيديولوجيا كنظريّة والواقع التطبيقي. وحين إنتهت الوحدة مع سوريا إتّضح كم كان المشروع القوميّ مجرّد يوتوبيا.
تحوّلت القوميّة عندها من مرحلة المشروع إلى مرحلة الوسيلة الدّعائيّة وساد شعور بين القوميين يقضي بأن البدء المنطقيّ بالمشروع القوميّ غير ممكن من دون قيآم دولة فلسطين. وقد أجّج هذا الأمر الوضع العالميّ المتأزّم حينها فانجرف عبد الناصر وراء الدعم السوفياتي ليجد نفسه في قلب الحرب الباردة. ولعلّ الميل الطبيعيّ لدى القوميين للإشتراكيّة والتقارب الإسرائيلي ـ الأمريكي جعل القوميّة تفلت من بين أصابع القوميين لتصبح سلاحا من أسلحة الحرب الباردة.
أمّا الإنهيار الرّسمي للنظام الناصريّ فقد أعلنت عنه الحرب الإستباقيّة الّتي شنّتها إسرائيل في 1967 لتنزل بمصر أقسى كارثة عسكريّة لها. لقد تحمّل عبد النّاصر مسؤوليّة الكارثة ممّا جعل منه بطلا وأنقذ ما يمكن إنقاذه، وهو صورته الإعلاميّة التي كانت جوهر قوّته وكانت تلك نهاية قوميّة القرن العشرين.
ولكن ما سبب ظهور القوميين الجديد إثر الثورة التونسيّة؟ هذا السؤال له إجابة غير معقّدة : وهو أنّ كلّ الظروف أتاحت ذلك. لقد كانت تونس بمعزل عن الحكم القوميّ طيلة مدّة رئاسة بورقيبة. أضف إلى ذلك تواصل الصراع العربيّ ـ الإسرائيليّ وسقوط حكم صدّام وإعدامه البربريّ الذي سهّل نسيان جرائمه وأعاد إحياء نظريّة المؤامرة الغربيّة ضدّ القوميين. إنّ تونس إفتقرت كليّا لمثل هذه التجربة، ومثلما دفعت سياسة بورقيبة المتفتّحة إلى ظهور الحركات الإسلاميّة، كان التقارب البورقيبي ـ الغربيّّ حافزا لظهور القوميين الذين جعلت منهم أحداث الستّينات يتقاربون مع الجميع، إلّا الغرب.
أمّا عن مستقبل القوميين في تونس فالقضيّة أكبر من القوميين أنفسهم، فتونس مقبلة على تغيّرات عميقة لا أحد يعرف مدى سلبيّتها أو إيجابيّتها. والأهمّ من ذلك هو أنّ القوميين لا يعرفون مدى راديكاليتهم أو حجمهم وقدرتهم على خوض غمار اللعبة الديمقراطيّّة وهي عوامل ستكون مصيريّة في المستقبل البعيد. ولذلك فالحديث في هذه المرحلة لا يكون له معنى إلّا في إطار السياسة الخارجيّة.
تعتبر جامعة الدول العربيّة الحجر الأساس بالنسبة للمشروع القومي، نظرا لكونها تجمع دوريا قادة هذه الدول جنبا إلى جنب. ولكن تاريخ هذه المنظمة يكشف لنا عن كمّ رهيب من الصراعات والمشاكل ولم تكن لها في أي لحظة قدرة واضحة على إستيعاب الخلافات بين هذه الدول. فلنذكر مثلا أن أهمّ قراراتها كانت بضغط تفرضه الأحداث مثل الحروب، وأنها فشلت فشلا ذريعا حتى في الإلتزام بقضيّة الشعب الفلسطيني. أهم الإفرازات التي خرجت من رحم هذه المنظمة كانت خلافات أكثر من الحلول والمشاريع، وتجاوزت الأحداث بسرعة هذه المنظمة مع ظهور حركات الربيع العربي. أصبح مجلس التعاون الخليجي أكثر جدّية سياسيّا، إلى درجة إمضاء معاهدة دفاع مشترك، في حين عجزت الجامعة العربيّة عن ذلك. ربما للا بدّ من أن نعترف أن الإختلافات بين الدول العربيّة أعمق ممّا نتخيّل : فقد لعبت المملكة العربيّة السعوديّة دورا أكبر من الجامعة العربيّة بأسرها في محاولة إنهاء العدوان العراقيّ على الكويت سنة 1990 مثلا.
كان من الأسهل إذن ظهور تحالف ملوكيات الخليج من لمّ الشمل العربيّ بأسره، وهذا يكشف لنا أن التجانس في أنظمة الحكم هو أحد أهم العوامل في وحدة القرار السياسيّ. ولكن يجب أن نتذكّر أن مشروع الوحدة العربيّة هو مشروع سياسي بحت، ولو نظرنا مثلا إلى الإتحاد الأوروبي لأكتشفنا أنه قائم على أبعاد إقتصاديّة أساسا، في حين تبقى الإختلافات في المواقف السياسيّة من الأعراض الجانبيّة. وفي وجود برلمان أوروبي ومشروع سلطة تنفيذيّة أوروبيّة أكثر من عبرة، فالوحدة الإقتصاديّة تسهّل كثيرا الوحدة السياسيّة، في حين أن البدء من الوحدة السياسيّة هو ضرب من المغالطة. فالوحدة السياسية تتطلب حل مشاكل كثيرة ومعقّدة مثل الوضع اللبناني وقضيّة الصحراء الغربيّة بالإضافة إلى إنتهاء الأزمة في كلّ من ليبيا وسوريا واليمن ونجاح المشروع السياسي في تونس ومصر وربما نجاح الإصلاحات في الدول الأخرى.
لا يجب أن ننسى طبعا تلك الإختلافات الصارخة على المستوى الإقتصاديّ والإجتماعيّ. فمنطقة الخليج مختلفة تماما عن شمال إفريقيا مثلا : أي حلّ يطرحه القوميّون ليصبح المواطن السعودي الغنيّ والمحافظ إلى أقصى الحدود شريكا مع المواطن المصريّ أو السودانيّ أو الصوماليّ؟ حتّى النظام الفيدرالي لا يبدو ناجعا لتحقيق مثل هذا المشروع ناهيك عن الوجود الإشكالي للعرقيّات الأخرى التي تهمّشها القوميّة العربيّة تماما كالأمازيغ غربا والأكراد شرقا.
المغزى الأهمّ الذى أطرحه في هذا المقال هو أن الحركة القوميّة، مثل الشيوعيّة تماما، هي في حاجة كبرى لأن تراجع نفسها بكلّ جدّية، حتّى في مستوى أفكارها التأسيسيّة. فإن كان إنهيار الشيوعيّة حدثا على مستوى صراع عالمي، فإن إنهيار القوميّة كان أزمة داخليّة في الحقيقة، خاصّة في الشقّ البعثيّ : ففي حدود التسعينات، أصبح حزب البعث مجرّد دمية في مستوى القرار والتنفيذ في العراق، وقد إدعى الباحث هشام داوود أنه دائرة القرار السّابعة وراء سلط أخرى مثل مجلس قيادة الثورة (وعلى رأسه صدّام حسين) والحرس الجمهوري والميليشيّات والمخابرات الأمنية والسياسيّة بل إن الحكومة كانت مصنفة في المرتبة التاسعة وراء الجيش! هذا الوضع شبيه بالتحوّل الديكتاتوري السريع للشيوعيّة في كلّ أشكالها المعروفة.
من المهم إذن أن تتخلص الحركة القوميّة من هذا الإرث الثقيل الذي تركه البعث وعبد الناصر، والولادة من جديد أيديولوجيا، ومن دون هذه المراجعة لن يستطيع القوميون النهوض حتّى بوصولهم إلى الحكم وسينتهي الأمر إلى صراعات وفشل إقتصادي وحروب لها نتائجها الكارثيّة المعتادة التي يعرفها كلّ نظام غير واقعيّ.
17 أوت 2011
Commentaires
I like HostGator hosting, You will too.
http://www.skoda-otfc.eu/phpbb23/profile.php?mode=viewprofile&u=247280