أي قدر من الحقيقة يستطيع عقل أن يتحمّل؟ وإلى أي حدٍّ من الحقيقة يجرؤ عقل على المضيّ؟ تلك هي المقاييس الحقيقيّة الّتي غدوت أعتمدها أكثر فأكثر للتقييم [...] ذلك أن الحقيقة وحدها هي الّتي ظلّت إلى حدّ اليوم خاضعة جوهريّا للحظر.
فريدريك نيتشه ـ هذا هو الإنسان
نحن كلّنا سواسية في عين الله وفي أعين سائقي الحافلات
مثل ألماني
حين ينظر الفرد إلى الوضع السائد في بلاده يفرح لكل ما يبدو له خيرا، ويحزن لكل ما يبدو له شرا. قد لا يتجاوز الأمر بالنسبة لأغلب الناس البسطاء مرحلة الإنفعال العاطفي، و لكن ذلك لا يحوّل هذا التفاعل إلى أفضل أسلوب ممكن للتعامل مع الأوضاع. هنا بالذات يجب أن نطرح سؤالا مهما : ما فائدة الإنفعالات العاطفيّة في أعين السياسيين والسلطة؟ وهل يعقل أن يعمد البعض لاستغلال هذه السذاجة الإجتماعيّة لتحقيق أهداف ما؟
الهدف من هذه المقالة هو أن أدّعي أن ذلك هو ما يحصل طيلة تاريخنا، بل ربما أصبح الأمر ممنهجا أكثر بواسطة الإعلام، وفي كلّ الأصعدة.
إلى أي مدى يمكن للمفكّر العربي العادي أن يذهب في نقده وتحليله دون أن يصطدم بجدران مكهربة من نوع الأوليغارشية المستبدة الحاكمة أو رجال الدين المتجمّدين أو المجتمع المريض بالجهل والخرافات وسيطرة الدعاية التافهة؟ هذا هو المنطلق الذي جعلني أكتب ما أكتب بعد ثورة أطاحت بديكتاتورية على طراز أورويلOrwell لينبثق أخ أكبرBig Brother أشدّ تعنّتا وصلفا من صدور العامّة.
طبعا لم توجد في تاريخنا أي دولة تحترم مواطنيها. أية مراجعة موضوعيّة لتاريخنا تكفي لإستنتاج ذلك، رغم أن تاريخنا نفسه لم يكتب بطريقة موضوعيّة. ولكن مجرّد طرح هذه الفكرة يعرّض صاحبها لخطر كبير. فالسلطة الديكتاتوريّة ستطارده لكونه يثير الأكاذيب الحاقدة عليها وقد أبدعت الأنظمة العربية في ذلك منذ بدايتها، والمتزمّتون لا تعوزهم الأفكار لإبتداع فتاوى القتل والسّمل كما هم بارعون في الغوص في التفاصيل الجنسيّة وإبتداع الأفكار المريضة التي يستحقّون المحاكمة من أجلها كمفاخذة الرضّع والرضاعة من زوجات الآخرين.
في سنة 2002، في أحد المؤتمرات الإسلامية بمدينة تورونتو الكنديّة، وقف أحد المسلمين الشجعان ليواجه الحقيقة التي يحتفظ بها الكثيرون لأنفسهم : "العلماء المسلمون اليوم لا بد ان يكونوا اشد ما عرفته البشرية تبلدا وأكثر ما انجبته ابتعاثا على الملل لأن كل واحد منهم يستطيع ان يقول "سأكتب الأشياء نفسها على وجه التحديد التي قيلت على امتداد السنوات الستمائة الماضية ""
لا بدّ أن مثل هذا الكلام لن يمرّ بسلام في بلادنا حتى لو كان صاحبه شخصا مرموقا - كما هو الحال، فقائله هو بروفيسور بجامعة كاليفورنيا/لوس أنجلس - ولكنه مرّ بسلام هناك لأن الحاضرين يعيشون حياة لا يتم فيها تجميل الأشياء، فيزجّ بالقساوسة في السجون حين يعتدون جنسيا على الأطفال ويسرد الرئيس ذليلا أمام المحكمة تفاصيل عن علاقاته العابرة وهو يطلب العفو. في الولايات المتحدة تضع جمعيات الملحدين إشهارات على الحافلات تقول :"عش حياتك، فالله على الأرجح غير موجود" في حين أن 90 بالمائة من الأمريكيين مؤمنون. فهل مجتمعاتنا أفضل حين تقمع مثل هذه الحريات؟
قطعا لا، فالدول العربية والإسلامية هي موطن العنف والفساد، بل إنه من الصعب أن تجد مكانا تحصل فيه على محاكمة عادلة من المحيط إلى الخليج. من أغرب الحجج التي سمعتها ضد العلمانية مثلا، مقولة مريضة لا أساس منطقي لها، هي أن التاريخ الإسلامي لم يشهد ديكتاتوريّة مثل ديكتاتوريّة الكنيسة! وفي الحقيقة هذا صحيح، فالكنيسة لم تبلغ رغم كل شيء المنصب الأعلى في الدولة وإنما كان لل كنيسة ولاء الملوك، ولكن المأساة هي أن الخليفة الإسلامي جمع المنصب الأوّل في الدولة والدين معا، ليصبح لجرائمه السياسية تبرير ديني بسيط ، هو أنه هو الناطق الرسمي الوحيد بإسم الله. لقد كانت حاجة المسلمين كبيرة إلى العلمانية، أكثر حتى من أي حضارة أخرى. ففي سنة 75 هجريّة مثلا، خطب عبد الملك بن مروان في المدينة فقال : "وآلله لا يأمرني أحد بتقوى آلله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه" ! لقد إستلزم الدولة الإسلاميّة مدة قصيرة جدا، هي 75 عاما، ليصبح الخليفة فوق كل مساءلة.
طبعا من المغالطة أن يدّعي أي شخص أن المشكلة في مجتمعنا هي ببساطة دينيّة. المشكلة أكبر من ذلك بكثير، ولكن الدين كان دائما يقدّم التبريرات المقدسة لكل ما هو مريض وغريب ومنكر في ممارسات السلطة.
الدين في أوطاننا هو مجرّد وسيلة، وقد ساهم المجتمع ببلاهته في تقوية هذه الوسيلة، فالتقديس في الإسلام تجاوز الآلهة إلى الأشخاص ليصبح الصحابة والأولياء "الصالحون" ومن بعدهم الخلفاء - على فجورهم - مقدّسين. طبعا هذا يمثّل كارثة كبرى للتاريخ والقيم والأخلاق، فهل أن عثمان بن عفان المبشّر بالجنّة شهيد إذ قتله المسلمون ورفضوا الصلاة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين في أوّل ثورة على نظام الحكم بسبب الفساد والمحسوبيّة التي تمثّل أيضا أسباب الثورتين الحاليتين في تونس ومصر؟ هناك أشياء غريبة في التاريخ الإسلاميّ يمرّ عليها الناس مرور الكرام، وكأنهم لا يقرؤون.
قد نذكر في تاريخنا ولع بعض الخلفاء بالثقافة والفن، وكرمهم العظيم ـ من أموال الشعب طبعا ـ ولكن لما لا يذكر أحد الخلفاء المثليين جنسيا كالوليد بن يزيد، الذي أشتهرت عنه هواية عجيبة هي رشق المصحف بالنبال؟ والأمر لا يتعلّق بالتاريخ فقط، وإنما بالسنّة أيضا، وقد أوقعت أحاديث كثيرة من البخاري و مسلم العلماء في إحراج وجعلهم يراجعون مدى صحّة هذه المراجع. ولكن هذا الفكر نادر جدا فمثل هذه الأسئلة يتم تجاهلها وإتهام أصحابها بإثارة الفتنة.
لعل المسلم يعتقد أن التاريخ الإسلامي هو جزء من العقيدة لا يرقى له الشكّ. وهذا ليس بالأمر الهيّن إطلاقا، فهو أحد أسباب الجمود الفكري لدى المسلمين العرب. إذن نحن نملك تاريخا مكوّنا من 14 قرنا من الإستبداد باسم الدين، وإلى حدود اليوم لا تزال الدعاية الدينية تشوّه الوضع الفكريّ والسياسيّ لدينا كما كان الحال في أروبا منذ قرون طويلة.
ولكن الغريب في الأمر هو أن هذه الدعاية تحوّلت إلى تشويه للعلم، وفي مجتمعاتنا العربية التي تنافس إفريقيا السوداء على أعلى نسب الأميّة في العالم، يعجز العلم عن الدفاع عن نفسه ويصبح الشخص المتعلّم الذي لا يصدّق أكاذيب زغلول النجار وهارون يحي المثيرة للضحك والإشمئزاز معا متّهما بالكفر والفجور والهرطقة كما كان غاليليو وغيوردانو برونو. والمبكي في الأمر هو أن هذه الأكاذيب أصبحت أيضا من العقيدة حيث يحس الكثير من المسلمين أن مجرد التفكير في صحّتها خطوة قاتلة نحو الكفر.
إنني أعتقد بكلّ صراحة ووضوح، أن الضعف النفسي والفكري تجاه رجال الدين وتجّار الدّين وكلّ من يستغل الدّين ويشوهه هو نفس الضعف الذي إستغله الحكام ليجعلوا كلّ تاريخ المسلمين ثيوقراطيا همجيا. إن الدّاء العضال الذي أصاب العرب والمسلمين لم يبدأ من جمال عبد الناصر وصدام حسين، ولا مع من سبقهم بقرنين أو ثلاثة. لقد بدأ المرض منذ البداية، منذ تأسيس الدّولة الإسلاميّة . بل أعتقد أيضا أن النزاع الدموي من أجل السلطة والمذابح الهمجية ضد الطوائف الأخرى، وقمع المفكرين والعلماء والأدباء هي أوجه كثيرة متعددة لعملة واحدة، هي أن الإنتصارات العسكرية المبكرة للدولة العربيّة الإسلاميّة حوّلتها إلى حضارة أشدّ تعصّبا. فالمنطق يعلّمنا أن نحترم أعداءنا، والهزائم تجبرنا على ذلك ولم يكن هناك ما يكفي من المنطق والهزائم في أول الأمر.
اليوم ونحن في ألفيّة ثالثة شديدة الولع بالعلم والتكنولوجيا، وبعد إنهيار نظام شمولي خانق وإتفاق الجميع على ضرورة وجود عدالة وحرية دون قيد أو شرط، ظهرت للعيان تلك المشاعر المضادة لحريات معيّنة دون غيرها : فحدود التعبير الفني هي الدين، وحدود الحريّة الفردية في المجتمع هي الدين. ندّد الكثيرون بالوثائقي ذي العنوان المستفزّ "لا إله و لا سيّد" ni dieu ni maître للمخرجة نادية الفاني وهناك من طالب بسحب جنسيّتها. ولا أعرف ماهي الجريمة التي إرتكبتها عدى أنها عبّرت عن معتقداتها الدينية والمدنية بوثائقيّ لايعرّض بشخص و لا يسُب شخصا. فهل طالب أحدهم بسحب جنسيّة التونسيّ الذي فجّر مرقد الإمامين بالعراق وقتل عشرات الأبرياء، وإغتال صحفيّة قديرة في حادث آخر؟ طبعا لا، فهناك من أصبح يطالب بإطلاق سراحه وعدم تنفيذ حكم الإعدام فيه. فهل بعد هذا النفاق من نفاق؟
لقد مرّ زمن طويل لم نتعلّم فيه سوى إنتقاد ثياب الآخرين ونسينا ثيابنا البالية. كانت هناك قلّة إنتبهت لهذا الأمر ولكنها بقيت غائبة عن التأثير. فالحقيقة، التي هي أصل الفضيلة لم يعد لها معنى بقدر ما أصبح المدح والشكر لملوك ورجال دين مؤلهين. والمهم اليوم هو أن نرتق هذه الثياب البالية التي جعلت حضارتنا تفشل في إنتاج نظام حكم عادل، أو معرفة علميّة قيّمة، أو حتى مجتمع سليم. وهذا المشروع لا يبدو الآن سوى يوتوبياUtopia في أرض اللون الواحد، والرأي الواحد، والحزب الواحد، والمستقبل الكارثي الواحد.
11 أوت 2011
Commentaires