لمن يتّعظ من دروس التاريخ، يعتبر القرن العشرون موسوعة العبر السياسية و العسكرية بكل المقاييس. ربما لن يضاهيه القرن الحادي والعشرون في غزارة الأحداث والتطوّر السياسي والعسكري وحتّى الإجتماعي والفكري. هذا ما قد يعتقده أي منّا بسذاجة، ولكن لا توجد ضمانات من هذا النوع في التاريخ الإنساني : فهل كان يوليوس قيصر يدرك أن إمبراطوريته التي هندس بنفسه إنتصاراتها وسيطرتها على العالم القديم ستدكها قبائل بربرية من شمال أوروبا بعد بضعة قرون؟ وهل تخيل أي باحث سياسي أو صحفي أو فيلسوف ليلة السابع و العشرين من جوان سنة 1914 أن طلقة نارية يتيمة في سراييفو يطلقها إرهابي مغمور في اليوم الموالي ستشعل جحيم الحربين الأكثر فظاعة في تاريخ الإنسانية؟
في عمل سياسي يجمع بين الواقعية والخيال الموضوعي، أصدر الباحث الأمريكي "أندرو كريپينيڤيتش" Andrew Krepinevich منذ سنتين كتابا يعنى بتخيل مثل هذه السيناريوهات الكارثية بعنوان "سبعة سيناريوهات قاتلة" 7Deadly Scenarios: A Military Futurist Explores War in the 21st Century . كانت النقاط الأساسية في هذا الكتاب تنطلق من الواقع المعروف حتى نهاية 2008 . يمكن أن نلخص هذه السيناريوهات في ما يلي :
• إنهيار باكستان
• إندلاع الحرب داخل الولايات المتحدة
• إنتشار وباء جديد
• هجوم على إسرائيل
• أزمة صينية - سيناريوهات متعدّدة -
• تفاقم الأزمة الإقتصادية العالمية
• إنفلات الوضع العراقي و إندلاع حرب إقليمية
سواء كنا مقتنعين بهذه التوقعات أم لا، يحذرنا البروفيسور كريپينيڤيتش في مقدمة الكتاب بقوله : "لا تحاول أن تتنبأ بالمستقبل، فلا أحد يقدر على ذلك" ولعله هو نفسه كان يؤمن بمقولة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوزGilles Deleuze : "الشّعب لا يوجد بعد الآن، أو لم يوجد بعد... الشعب مفقود" فلم يكن في سيناريوهاته أي تصوّر لثورات شعبيّة عربيّة تغيّر أسعار النفط و الذهب و تصنع خلافات إقليمية جديدة و أجندات سياسيّة جديدة. ربما كانت قيمة الكتاب في كشفه مدى هشاشة الوضع العالمي الحالي، ولكننا في هذه الأيام لا بد من أن نفكر بنفس الطريقة مع الأحداث الحالية : فما يحصل اليوم مهم بنفس درجة أهميّة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. إنه إنقلاب في الوضع السياسي بعديد الدول أشعله عود ثقاب كان قد إلتقى بجسد يائس مضمّخ بالبنزين ذات 17 ديسمبر 2010 بإحدى المناطق الداخليّة بتونس. لقد أشعل ذلك الحريق القاتل أزمة رهيبة لم يسبق لها مثيل، أزمة أطاحت بنظامين و عشرات آلاف القتلى دون أن تنتهي إلى حدود كتابة هذه السطور.
لا بد إذن من إستيحاء تحاليل و تنبؤات غير مغرقة في الخيال الجامح من أحداث هذه السنة الخارقة للعادة، فلنتسائل مثلا : مالذي يمكن أن يحصل لو إنهار النظام السوري الذي يعتبر الجسر بين الديكتاتورية الإيرانية و ما يسمى بالهلال الشيعي؟ وهل سنشهد إحتجاجات و ثورات من نفس طينة الأحداث الحالية في أفريقيا ما تحت الصحراء الزاخرة بالأنظمة على الشاكلة البنعلية النوفمبرية؟ أي صدى لهذه الأحداث سنراه في جنوب شرق آسيا؟كلها أسئلة لا يدعي أحد قدرته على الإجابة عنها بشكل حاسم.
إنها لحظات تدعو للتأمّل و تستفزّ الجميع، فمثلا يروى أن صامويل هنتنغتون Samuel Huntington، صاحب نظرية "صدام الحضارات" حين بلغه نبأ هجمات 11 سبتمبر صرخ بأعلى صوته "ألم أقل لكم؟" ولعل نفس الشعور راود غريمه فرنسيس فوكوياما Francis Fukuyama ـ الذي يراهن على الليبرالية الديمقراطية الرأسمالية كأفضل نظم الحكم من خلال نظرية "نهاية التاريخ"ـ وهو يشاهد أحداث الثورتين التونسيّة ثمّ المصريّة المطالبتين بالحريّة والديمقراطيّة. و ربّما كان هناك خليط من النظريّتين يصف الحقيقة بشكل أدقّ مع تفاوت دوري في الكميّة. ولكنّ الأكيد هو أن الغريمين تجمعهما نقطة واحدة هو المنظور الأمريكي للأشياء وإندفاعهم إلى هذه التحاليل لمصلحة وطنهم، فيما تنعدم مثل هذه النظرة الإستشرافيّة في مجتمعاتنا، وهذا نقص خطير لا بدّ من إدراكه.
يقول مثل أمريكي :"الفرق الوحيد بين الأطفال و الكهول هو أن الكهول لا يطرحون الأسئلة" وفي هذه المرحلة الجديدة، نحن جميعا أطفال نتعلّم في مدرسة التّاريخ. وما لم نطرح أسئلة مناسبة حول مستقبلنا ومستقبل المنطقة فإننا سنواجه مفاجآت عمّا قريب، والتجربة تعلّمنا أن أغلب مفاجآت السياسة هي عادة سيّئة و كارثية.
حتى بالنسبة إلى الباحثين المتخصصين في السياسة العالمية، لا تزال مشكلة التنبؤ السياسي هي الهاجس الأكبر، إلى درجة أنه أصبح يتم البحث أكثر في مدى إستقرار الأنظمة و العلاقات أكثر من التفكير في المستقبل السياسي. يعبّر الباحث الأمريكي نيل هاريسون Neil E. Harrison ـ في كتاب "التعقيد في السياسة العالميّة" Complexity in world politics الذي شارك في كتابته مع ثلّة من الباحثين ـ عن ذلك بقوله : "رغم ما يقارب المائة عام من التنظير، لا ينفكّ الأكاديميون و الممارسون السياسيون عن الإندهاش من الأحداث السياسية الدوليّة و العالميّة." ولكنّ هاريسون يطرح إثر ذلك قضيّة رئيسيّة هي حجّة الكتاب : "هذا الكتاب يدّعي أن السياسة العالميّة هي أكثر تعقيدا مما حلمت به كلّ النظريات السياسيّة الحاليّة" وهذا هو لبّ الموضوع . بل لعلّ أوسكار وايلد Oscar Wilde كان محقّا في إعتقاده أن "الحقيقة نادرا ما تكون صافية، ولا تكون بسيطة أبدا" خاصة فيمايتعلّق بالسياسة. فإن كانت الحقيقة المحدودة في المكان و الزمان صعبة المنال إلى هذه الدرجة، فماذا يمكن أن نقول عن التنبؤ السياسيّ بما هو تخيّل سيناريو متكامل من الأسباب والنتائج المترابطة بشكل منطقي؟
يمكن أن نختصر إذن كل هذا بنقطتين رئيسيّتين : أولهما أن الوضع العالمي لم يكن مستقرا، ولن يكون كذلك إلى المستقبل القريب، فظهور هذه الأحداث السياسية الكبيرة كسقوط الشيوعية بين 1989 و1991 وهجمات 11 سبتمبر 2001 ثم إنبثاق نسيج الثورات العربيّة هذا العام هو أكبر دليل على تعقّد الوضع وتواصل الصراع. يسوق المؤرخون حجة إحصائية في صالح إنتصار الليبرالية الديمقراطية هي باختصار إرتفاع عدد الدول ذات الإنتخابات النزيهة والشفافة والعامة من الصفر سنة 1900 إلى 120 مع بداية القرن الحادي والعشرين. ولكن يجب أن نعرف أن الأنظمة الدكتاتورية المتبقية هي التي أظهرت نجاعة أكبر في الحد من المدّ الديمقراطي بل إنها أصبحت تتكتّل فيما بينها للتصدّي لهذه الظاهرة. وفي الأشهر الماضية نذكر مثال إنضمام مملكتين غير خليجيتين إلى مجلس التعاون الخليجي ـ هما الأردن و المغرب ـ ليتحول هذا المجلس إلى تحالف ممالك ضد مدّ جمهوري ديمقراطي متوقّع في المنطقة. كذلك هناك أسئلة كثيرة تحوم حول روسيا التي رفضت في وقت سابق التعاون مع الإتحاد الأوروبي في مسألة مراقبة الإنتخابات، ثم هاهي تتفاوض الآن مع نظام بيلاروسيا الديكتاتوري من أجل الإندماج.
النقطة الثانية هي باختصار أن التغييرات الإجتماعية ليست كافية للجزم بحتميّة التغيير السياسي. فالثورة المعلوماتيّة و إن ساهمت في ظهور الرّبيع العربيّ لم تنجح في تغيير العالم فعلا : هذه الثورات العربية لن تلامس في الحقيقة أكثرمن نسبة 5 % من سكان العالم، إلّا إذا أصبحت أيضا عالميّة، وهوما لا نعرفه بعد. ففي لحظة كتابة هذه السطور لا ترتبط هذه الأحداث إلاّ بخمسة شعوب فقط، وقد لا يتجاوز الأمر ذلك. ولكن تغييرات عميقة شملت مجتمعات كثيرة دون ثورات شعبيّة حقيقيّة : فقد ظهرت الديمقراطية بهدوء إثر وفاة فرانكو في إسبانيا، وقد صنع إنقلاب عسكري الديمقراطيّة في البرتغال سنة 1974 وأنقذها في تركيا سنة 1980.
إعتقد سقراط ـ كما نقل عنه أفلاطون في كتاب "الجمهورية" ـ أنه حتى عصابة من اللصوص غير قادرة على الإستمرار بدون وجود نوع من الأخلاق داخل المجموعة. وفي دولة مثل روسيا حيث تتقاسم المافيا الإقتصاد مع أباطرة الشركات القطاعية، أعتقد أن مثل هذه الأخلاق موجودة حتما بل ربما مصادق عليها داخل دائرة السلطة. فهل وصلت روسيا هكذا إلى مرحلة توازن؟ وما تأثير ذلك أو عدمه على مستقبل السياسة الدولية التي تمثّل فيها روسيا وزنا كبيرا بحق الفيتو في مجلس الأمن، ومبيعاتها العسكريّة وتعاطفها المتواصل مع الديكتاتوريات؟
كان نظام بن علي مستوحى من السوفياتية ولا تنقصه سوى الشيوعية ليصبح سوفياتيا محضا. ولا يزال الإرث السوفياتي مؤثرا في حركة القوميّة العربيّة بشكل ما، والتي إعتقد البعض أنها إنتهت سريريا في سبعينات القرن الماضي. هذا الإرث السوفياتي لا يزال متواصلا مع النظام في سوريا وهو يفسّر وحشيّة النظام السوري الحاليّة وعدم جديّته في الإصلاح. وكما أن الماضي أثّر في حاضرنا بطريقة ما، فلا يمكننا أن ننفي قدرته على التأثير في مستقبلنا بشكل ما. و ربما ما يجب أن نتعلمه، هو أن النظرة المستقبليّة الأكاديميّة في السّياسة لا يجب أن تظلّ إختصاصا غربيّا.
6 أوت 2011
Commentaires