لا يوجد في تونس موضوع نقاش أكثر شعبية من عملية الإنتقال السياسي التي نعيشها وذلك منذ فرار الديكتاتور زين العابدين بن علي عن أرض بلاده إلى "الأراضي المقدسة". ومنذ تسلم الدكتور محمد المنصف المرزوقي للرئاسة في نوفمبر الماضي، في حدث له دلالات كثيرة سنعرج عليها فيما بعد، فإن الرأي العام التونسي ـ على إختلاف توجهاته ـ يعيش منذ دلك الوقت على وقع ما يعرف بالترويكا المتكونة من حزب يصنف يمينيا (وهو حزب النهضة) وحزبين علمانيين (المؤتمر والتكتل). واليوم، بعد أشهر من قيام حكومة الثلاثي الحاكم، مايزال الصدام الأيديولوجي (ماديا وفكريا) هو سيد الساحة السياسية.
في هذا المقال سأقدم تحليلا للوضع السياسي التونسي وحزمة أفكار قد تساعد في فهم السياسات والمواقف التي أصبحت هم التونسيين منذ أكثر من سنة.
منذ أن بدأت متابعة كتابات المنصف المرزوقي بجدية، أي بعد أيام من هروب بن علي، كان لدي إحساس أن هذا الرجل يملك ما يقوله في السياسة. طبعا الحديث عن السياسة هو حديث ذو شجون، والصعود أو الإنحطاط هما في الحقيقة إحتمالان واردان لكل سياسي، ولكن بعيدا عن الصورة "الشعبية" التي يملكها التونسيون لنخبة السياسيين، فإن المرزوقي هو رجل مارس السياسة على مستويين لا يعرفهما الكثيرون كمصطفى بن جعفر أو أحمد إبراهيم، وهما الكتابة السياسية الجادة والصدام السياسي اللاأيديولوجي. يبقى أن نذكر رجلا آخر قد يتمتع بنفس تجربة المرزوقي وهو حمة الهمامي، والذي يبقيه إنتماؤه الأيديولوجي للشيوعية خيارا مستبعدا من طرف الأغلبية الساحقة للتونسيين.
طبعا وجود مصطفى بن جعفر اليوم، إلى جانب حمادي الجبالي والمرزوقي في الحكم المؤقت لهو أمر له دلالته. ذلك الرجل الحازم، رئيس قسم الأشعة في أحد أكبر مستشفيات العاصمة، وقائد التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات الرصين، حقق إنتصارا صغيرا ولكن كافيا ليصبح له وزن سياسي (وهو نفس وضع المرزوقي). لكي نعرف مدى تأثير حقبتي الحكم البورقيبية والبنعلية في الرأي العام، هناك مؤشران مهمان : أولهما الوزن الكبير لمؤسسة الرئاسة، حيث أن الملاحظ للرأي العام يدرك جيدا أن إصرار المرزوقي على الرئاسة ليس حبا في كرسي بدون صلاحيات بقدر ماهو معرفة للتأثير الكبير لمنصب الرئيس في الرأي العام التونسي (والذي يمكن تصنيفه على أنه نوع من التقاليد السياسية) أما ثاني المؤشرات فهو إختفاء عقدة ما يسمى "البلدية" وظهور عقدة "السواحلية" في فترتي حكم بورقيبة وبن علي، فقد عرف عن الأول تمييزه الكبير بين الداخل والساحل وخاصة المنستير مسقط رأسه، وإنتاب الرأي العام يقين بأن الحكم في تونس هو مؤسسة ساحلية إلى الأبد مع صعود بن علي إلى الحكم.
إختفاء "البلدية" مكن بن جعفر، إبن باب سويقة، من الحصول على منصب رئاسة المجلس التأسيسي، نفس المنصب الذي حصل عليه جلولي فارس غداة الإستقلال، والذي لا يعرف عنه التونسيون سوى أنه الرجل الذي يرد إسمه في دستور 59 (ما عدى قلة طبعا). ولكن اللعبة السياسية ليست بهذه البساطة، فعلى مستوى الزعامات هناك تفاصيل أخرى تجعلني متيقنا من أن بن جعفر ندم على عدم دخوله للمعارضة وفهم متأخرا أنه أقدم على إنتحار سياسي.
كان إختيار التكتل ليشارك في تشكيل السلطة التنفيذية أمرا محسوما : فهو الحزب الثالث (والكتلة الرابعة) في الإنتخابات، والأهم من ذلك هو أن التكتل كان قد أظهر بوادر تسامح مع الإسلاميين (فبعد أن رفض التكتل الإنصهار مع المؤتمر من أجل الجمهورية سنة 2003 بسبب رفضه القاطع للتعامل مع الإسلاميين، قبل بعد ذلك بسنوات الدخول في هيئة 18 أكتوبر مع حركة النهضة وآخرين لتوحيد المعارضة بمختلف أطيافها ضد بن علي[المصدر : من خطاب لمحمد عبو، عضو المكتب السياسي للمؤتمر من أجل الجمهورية في إفتتاح الحملة الإنتخابية، 2 أكتوبر 2011]) عكس ما فعله الديمقراطي التقدمي الذي أعلن غداة الإنتخابات هزيمته وإنضمامه إلى المعارضة. وبما أن قوائم العريضة الشعبية كانت خيارا مستحيلا بالنسبة للنهضة (نظرا لأن الدكتور الهاشمي الحامدي، زعيم هذه القوائم له عداء تاريخي مع راشد الغنوشي زعيم الحركة، وتاريخ أسود في الدفاع عن بن علي يجهله بعض التونسيين) فإن تشكيل حكومة إسلامية ـ علمانية كان أسهل من التحالف مع العريضة الشعبية.
بدا الأمر بالنسبة لبن جعفر فرصة حقيقية : فهو جني للغنائم بعد إنتصار في طعم الهزيمة (خاصة أن إستطلاعات الرأي قبل أيام من الإنتخابات كانت تضعه ثانيا وراء النهضة، وتضع المؤتمر رابعا، مع غياب كامل للعريضة الشعبية) قد يعيد له الأمل في مستقبل أكثر جمالا. لقد نسي بن جعفر والشق الداعم له أن التكتل يضم أيضا أشخاصا معروفين بعدائهم للإسلاميين (مثل خميس قسيلة الذي كان مع محمد الشرفي وغيره من المنادين بحياد الرابطة التونسية لحقوق الإنسان تجاه الصراع بين بن علي والنهضة في التسعينات [المصدر: طغاة مع تأجيل التنفيذ ـ المنصف المرزوقي وفانسن جايسر،2011]) والنتيجة هي مسلسل إنشقاقات في التكتل قادها قسيلة، وهاهو التكتل بعد أشهر من جني الغنائم يدخل في مفاوضات غير معلنة للإندماج مع المؤتمر في مسعى لإنقاذ نفسه من هزيمة ساحقة تبدو وشيكة في الإنتخابات القادمة.
أما بالنسبة للمؤتمر، الحزب المتعالي رسميا عن الأيديولوجيا، واليساري الوسطي عمليا، فاللعبة مختلفة تماما : رغم إختلاف التوجهات الفكرية لأعضائه، فالمؤتمر عموما يقبل بالتعامل مع الإسلاميين على شرط أن يثبتوا جدارتهم بهذه الفرصة التي سنحت لهم، وذلك بإحترام المبادىء الجمهورية والديمقراطية والحقوق العامة المدنية والكونية. وإذا كان راشد الغنوشي يقول أن الإسلاميين هم طيف يمتد من بن لادن إلى أردوغان، فإن المرزوقي يراهن على أن الإسلاميين يتحولون من الإرهاب والعنف إلى الممارسة السياسية السلمية حالما تتاح لهم الفرصة (في أغلب الحالات، ماليزيا والفلبين مثالا) وهي وجهة النظر التي تدعو لها الدراسات الجيو إستراتيجية الأمريكية (كمثال : أنظر "الإستراتيجيات الغير عسكرية في مواجهة الإرهاب الإسلامي : دروس من مواجهة التمردات السابقة" لكيرت كامبل وريتشارد وايتز، منشورات جامعة برنستون الأمريكية 2006)
طبعا لا يمكن التنبؤ بمدى وجاهة موقف المؤتمر من أجل الجمهورية هذا، ولكن حتى المهتمون الأجانب بالشأن التونسي يدافعون عن هذه الفكرة (فلنذكر خاصة ما يقوله نيكولا بو وجان بيار توكوا في كتابهما الشهير "صديقنا الجنرال بن علي : وجه المعجزة التونسية الحقيقي" : "في هذه اللحظة الحاسمة (1989) يبدو أن بإمكان تونس أن تكون مختبرا لإعادة دمج ممكن لقسم من الإسلاميين الرافضين للعنف") ويعتقد المرزوقي مثلا أنه كان من الممكن منح فرصة لجبهة الإنقاذ الجزائرية : فإما أن ينجحوا في الموازنة بين فكرهم والدولة المدنية، وإما أن يفشلوا فيخسرون الإنتخابات الموالية. وفي أسوأ الإحتمالات، وهو قيام ديكتاتورية دينية، بإمكان الجيش التدخل لإنقاذ الموقف [المرزوقي : طغاة مع تأجيل التنفيذ] ورغم أن الكثيرين لا يشاطرونه هذا الرأي، فإن موقفه هذا له ما يبرره ومنصب الرئاسة الذي أراده كان الغرض منه إبعاد النهضة عن القيادة العليا للقوات المسلحة لأسباب خارجية بحتة، ومن ناحية موضوعية تبدو حال المؤتمر أفضل بكثير من التكتل في ما يخص نجاح مشروعيهما.
وفي حين يتبنى المؤتمر من أجل الجمهورية خطة عمل سياسية للحد من الآثار الجانبية لدخول الإسلاميين إلى اللعبة السياسية، ما يزال زعماء المعارضة يعتقدون بأن نجاحهم يكمن في إفهام الناس ـ عن خطأ أو عن صواب ـ أن الإسلاميين إرهابيون وطغاة بالفطرة. الخاسر الأبرز في الإنتخابات كان حزب العمال الشيوعي التونسي (الذي أعتقد شخصيا أن وزنه السياسي أكبر من وزنه الإنتخابي) ولكن الخاسر الأكبر في صفقة تشكيل السلطة التنفيذية هو بدون شك التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.
أما بالنسبة للنهضة، فقد خسرت كثيرا من قدرتها على المناورة السياسية. فرغم وزنها الكبير في المجلس التأسيسي، فإن معركة الدستور تبدو خاسرة بالنسبة لها (يقدر البعض أن أغلب نواب المجلس يمكن إعتبارهم ديمقراطيين يساريين، مما يمنح إطمئنانا على توجهات الدستور العامة) ولكن على مستوى السلطة التنفيذية، فإن تحالف النهضة يبدو هشا : فانسحاب المؤتمر مثلا سيؤدي لسقوط الحكومة في ظرف وجيز (لأن التكتل غير مستعد إطلاقا ليتعامل وحده مع النهضة في الحكم) وحصول النهضة على وزارات السيادة يجنب الحليفين العلمانيين أي مسؤولية عن أي أزمة متوقعة، وهو أمر غير مستبعد.
ربما سيكون من المتوقع القول أن النهضة ظنت أنها جاهزة للحكم، بحكم أدبياتها السابقة في الثمانينات، مع إهمال تفصيل واحد بسيط : هو أن الحكم الديمقراطي أصعب بكثير من الديكتاتورية. ويبدو أن إستعمالها لطرق غير أخلاقية نوعا ما (كشراء صفحات الفايسبوك للدعاية، واستعمال المساجد، وتشويه المعارضين، وعدم تحكمها في القواعد) جعل النخبة المستقلة تبتعد عنها بطريقة غريزية (آخر هؤلاء المستقلين الذين إبتعدوا عن النهضة عبد الفتاح مورو، وهي شخصية لها وزن في الأوساط المعتدلة) مما ينهي رويدا رويدا حلمها في إقامة حكومة تكنوقراط كخطة بديلة.
بقي أن نشير إلى أن هذا النجاح أو الفشل السياسي لا يعنيان بأي حال إنقلابا في موازين القوى، وأن الأشهر القادمة قد تحمل تطورات لها تأثير أكبر على مستوى الشعبية. ولكن هذا التخبط الذي تعيش فيه النخبة السياسية وعدم التماسك الذي تمر به الأحزاب الصغيرة، قد يهددان مستقبل الديمقراطية في تونس.
في هذا المقال سأقدم تحليلا للوضع السياسي التونسي وحزمة أفكار قد تساعد في فهم السياسات والمواقف التي أصبحت هم التونسيين منذ أكثر من سنة.
منذ أن بدأت متابعة كتابات المنصف المرزوقي بجدية، أي بعد أيام من هروب بن علي، كان لدي إحساس أن هذا الرجل يملك ما يقوله في السياسة. طبعا الحديث عن السياسة هو حديث ذو شجون، والصعود أو الإنحطاط هما في الحقيقة إحتمالان واردان لكل سياسي، ولكن بعيدا عن الصورة "الشعبية" التي يملكها التونسيون لنخبة السياسيين، فإن المرزوقي هو رجل مارس السياسة على مستويين لا يعرفهما الكثيرون كمصطفى بن جعفر أو أحمد إبراهيم، وهما الكتابة السياسية الجادة والصدام السياسي اللاأيديولوجي. يبقى أن نذكر رجلا آخر قد يتمتع بنفس تجربة المرزوقي وهو حمة الهمامي، والذي يبقيه إنتماؤه الأيديولوجي للشيوعية خيارا مستبعدا من طرف الأغلبية الساحقة للتونسيين.
طبعا وجود مصطفى بن جعفر اليوم، إلى جانب حمادي الجبالي والمرزوقي في الحكم المؤقت لهو أمر له دلالته. ذلك الرجل الحازم، رئيس قسم الأشعة في أحد أكبر مستشفيات العاصمة، وقائد التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات الرصين، حقق إنتصارا صغيرا ولكن كافيا ليصبح له وزن سياسي (وهو نفس وضع المرزوقي). لكي نعرف مدى تأثير حقبتي الحكم البورقيبية والبنعلية في الرأي العام، هناك مؤشران مهمان : أولهما الوزن الكبير لمؤسسة الرئاسة، حيث أن الملاحظ للرأي العام يدرك جيدا أن إصرار المرزوقي على الرئاسة ليس حبا في كرسي بدون صلاحيات بقدر ماهو معرفة للتأثير الكبير لمنصب الرئيس في الرأي العام التونسي (والذي يمكن تصنيفه على أنه نوع من التقاليد السياسية) أما ثاني المؤشرات فهو إختفاء عقدة ما يسمى "البلدية" وظهور عقدة "السواحلية" في فترتي حكم بورقيبة وبن علي، فقد عرف عن الأول تمييزه الكبير بين الداخل والساحل وخاصة المنستير مسقط رأسه، وإنتاب الرأي العام يقين بأن الحكم في تونس هو مؤسسة ساحلية إلى الأبد مع صعود بن علي إلى الحكم.
إختفاء "البلدية" مكن بن جعفر، إبن باب سويقة، من الحصول على منصب رئاسة المجلس التأسيسي، نفس المنصب الذي حصل عليه جلولي فارس غداة الإستقلال، والذي لا يعرف عنه التونسيون سوى أنه الرجل الذي يرد إسمه في دستور 59 (ما عدى قلة طبعا). ولكن اللعبة السياسية ليست بهذه البساطة، فعلى مستوى الزعامات هناك تفاصيل أخرى تجعلني متيقنا من أن بن جعفر ندم على عدم دخوله للمعارضة وفهم متأخرا أنه أقدم على إنتحار سياسي.
كان إختيار التكتل ليشارك في تشكيل السلطة التنفيذية أمرا محسوما : فهو الحزب الثالث (والكتلة الرابعة) في الإنتخابات، والأهم من ذلك هو أن التكتل كان قد أظهر بوادر تسامح مع الإسلاميين (فبعد أن رفض التكتل الإنصهار مع المؤتمر من أجل الجمهورية سنة 2003 بسبب رفضه القاطع للتعامل مع الإسلاميين، قبل بعد ذلك بسنوات الدخول في هيئة 18 أكتوبر مع حركة النهضة وآخرين لتوحيد المعارضة بمختلف أطيافها ضد بن علي[المصدر : من خطاب لمحمد عبو، عضو المكتب السياسي للمؤتمر من أجل الجمهورية في إفتتاح الحملة الإنتخابية، 2 أكتوبر 2011]) عكس ما فعله الديمقراطي التقدمي الذي أعلن غداة الإنتخابات هزيمته وإنضمامه إلى المعارضة. وبما أن قوائم العريضة الشعبية كانت خيارا مستحيلا بالنسبة للنهضة (نظرا لأن الدكتور الهاشمي الحامدي، زعيم هذه القوائم له عداء تاريخي مع راشد الغنوشي زعيم الحركة، وتاريخ أسود في الدفاع عن بن علي يجهله بعض التونسيين) فإن تشكيل حكومة إسلامية ـ علمانية كان أسهل من التحالف مع العريضة الشعبية.
بدا الأمر بالنسبة لبن جعفر فرصة حقيقية : فهو جني للغنائم بعد إنتصار في طعم الهزيمة (خاصة أن إستطلاعات الرأي قبل أيام من الإنتخابات كانت تضعه ثانيا وراء النهضة، وتضع المؤتمر رابعا، مع غياب كامل للعريضة الشعبية) قد يعيد له الأمل في مستقبل أكثر جمالا. لقد نسي بن جعفر والشق الداعم له أن التكتل يضم أيضا أشخاصا معروفين بعدائهم للإسلاميين (مثل خميس قسيلة الذي كان مع محمد الشرفي وغيره من المنادين بحياد الرابطة التونسية لحقوق الإنسان تجاه الصراع بين بن علي والنهضة في التسعينات [المصدر: طغاة مع تأجيل التنفيذ ـ المنصف المرزوقي وفانسن جايسر،2011]) والنتيجة هي مسلسل إنشقاقات في التكتل قادها قسيلة، وهاهو التكتل بعد أشهر من جني الغنائم يدخل في مفاوضات غير معلنة للإندماج مع المؤتمر في مسعى لإنقاذ نفسه من هزيمة ساحقة تبدو وشيكة في الإنتخابات القادمة.
أما بالنسبة للمؤتمر، الحزب المتعالي رسميا عن الأيديولوجيا، واليساري الوسطي عمليا، فاللعبة مختلفة تماما : رغم إختلاف التوجهات الفكرية لأعضائه، فالمؤتمر عموما يقبل بالتعامل مع الإسلاميين على شرط أن يثبتوا جدارتهم بهذه الفرصة التي سنحت لهم، وذلك بإحترام المبادىء الجمهورية والديمقراطية والحقوق العامة المدنية والكونية. وإذا كان راشد الغنوشي يقول أن الإسلاميين هم طيف يمتد من بن لادن إلى أردوغان، فإن المرزوقي يراهن على أن الإسلاميين يتحولون من الإرهاب والعنف إلى الممارسة السياسية السلمية حالما تتاح لهم الفرصة (في أغلب الحالات، ماليزيا والفلبين مثالا) وهي وجهة النظر التي تدعو لها الدراسات الجيو إستراتيجية الأمريكية (كمثال : أنظر "الإستراتيجيات الغير عسكرية في مواجهة الإرهاب الإسلامي : دروس من مواجهة التمردات السابقة" لكيرت كامبل وريتشارد وايتز، منشورات جامعة برنستون الأمريكية 2006)
طبعا لا يمكن التنبؤ بمدى وجاهة موقف المؤتمر من أجل الجمهورية هذا، ولكن حتى المهتمون الأجانب بالشأن التونسي يدافعون عن هذه الفكرة (فلنذكر خاصة ما يقوله نيكولا بو وجان بيار توكوا في كتابهما الشهير "صديقنا الجنرال بن علي : وجه المعجزة التونسية الحقيقي" : "في هذه اللحظة الحاسمة (1989) يبدو أن بإمكان تونس أن تكون مختبرا لإعادة دمج ممكن لقسم من الإسلاميين الرافضين للعنف") ويعتقد المرزوقي مثلا أنه كان من الممكن منح فرصة لجبهة الإنقاذ الجزائرية : فإما أن ينجحوا في الموازنة بين فكرهم والدولة المدنية، وإما أن يفشلوا فيخسرون الإنتخابات الموالية. وفي أسوأ الإحتمالات، وهو قيام ديكتاتورية دينية، بإمكان الجيش التدخل لإنقاذ الموقف [المرزوقي : طغاة مع تأجيل التنفيذ] ورغم أن الكثيرين لا يشاطرونه هذا الرأي، فإن موقفه هذا له ما يبرره ومنصب الرئاسة الذي أراده كان الغرض منه إبعاد النهضة عن القيادة العليا للقوات المسلحة لأسباب خارجية بحتة، ومن ناحية موضوعية تبدو حال المؤتمر أفضل بكثير من التكتل في ما يخص نجاح مشروعيهما.
وفي حين يتبنى المؤتمر من أجل الجمهورية خطة عمل سياسية للحد من الآثار الجانبية لدخول الإسلاميين إلى اللعبة السياسية، ما يزال زعماء المعارضة يعتقدون بأن نجاحهم يكمن في إفهام الناس ـ عن خطأ أو عن صواب ـ أن الإسلاميين إرهابيون وطغاة بالفطرة. الخاسر الأبرز في الإنتخابات كان حزب العمال الشيوعي التونسي (الذي أعتقد شخصيا أن وزنه السياسي أكبر من وزنه الإنتخابي) ولكن الخاسر الأكبر في صفقة تشكيل السلطة التنفيذية هو بدون شك التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.
أما بالنسبة للنهضة، فقد خسرت كثيرا من قدرتها على المناورة السياسية. فرغم وزنها الكبير في المجلس التأسيسي، فإن معركة الدستور تبدو خاسرة بالنسبة لها (يقدر البعض أن أغلب نواب المجلس يمكن إعتبارهم ديمقراطيين يساريين، مما يمنح إطمئنانا على توجهات الدستور العامة) ولكن على مستوى السلطة التنفيذية، فإن تحالف النهضة يبدو هشا : فانسحاب المؤتمر مثلا سيؤدي لسقوط الحكومة في ظرف وجيز (لأن التكتل غير مستعد إطلاقا ليتعامل وحده مع النهضة في الحكم) وحصول النهضة على وزارات السيادة يجنب الحليفين العلمانيين أي مسؤولية عن أي أزمة متوقعة، وهو أمر غير مستبعد.
ربما سيكون من المتوقع القول أن النهضة ظنت أنها جاهزة للحكم، بحكم أدبياتها السابقة في الثمانينات، مع إهمال تفصيل واحد بسيط : هو أن الحكم الديمقراطي أصعب بكثير من الديكتاتورية. ويبدو أن إستعمالها لطرق غير أخلاقية نوعا ما (كشراء صفحات الفايسبوك للدعاية، واستعمال المساجد، وتشويه المعارضين، وعدم تحكمها في القواعد) جعل النخبة المستقلة تبتعد عنها بطريقة غريزية (آخر هؤلاء المستقلين الذين إبتعدوا عن النهضة عبد الفتاح مورو، وهي شخصية لها وزن في الأوساط المعتدلة) مما ينهي رويدا رويدا حلمها في إقامة حكومة تكنوقراط كخطة بديلة.
بقي أن نشير إلى أن هذا النجاح أو الفشل السياسي لا يعنيان بأي حال إنقلابا في موازين القوى، وأن الأشهر القادمة قد تحمل تطورات لها تأثير أكبر على مستوى الشعبية. ولكن هذا التخبط الذي تعيش فيه النخبة السياسية وعدم التماسك الذي تمر به الأحزاب الصغيرة، قد يهددان مستقبل الديمقراطية في تونس.
Commentaires