في الحقيقة، لم أستطع أن أنسى أي شيء عنها. ولكنني مللت مرحلة الصدام مع الناس، مللت مرحلة الجدل والنقاش، مللت رحلة التفكير وسط غيمات من دخان السجائر وموسيقى المقاهي الرخيصة. ولم تكن تعني لي شيئا من الناحية العاطفية المحضة. لم نتجاوز يوما حدود اللباقة ولكنني كنت أعتبرها صديقة فقط. ولكم نحن في حاجة إلى صديقات ! هناك أشياء لا يمكن للصداقة بين الرجال أن تحتملها. هناك صداقة مع الأنثى تكون أعمق وأشد صراحة أحيانا.
بعد أكثر من سنة، قررت أن أعود لرؤيتها. كنت أنا الذي غيرت مكان جلوسي، من المقهى العتيق المعتاد إلى غرفتي البائسة، لأتفرغ لنفسي وكتاباتي، كل تلك الكتابات التي كنت أهدر فيها ساعات طويلة، لأكتشف فيما بعد أنني كنت واهما، وأنني لم أكن أكتب بقدر ما كنت أنفعل ضد نفسي. كل تلك الحكايات التي سأسردها لها، وكنت أعرف أنها ستسخر مني طول الوقت.
طيلة الأشهر التي مضت منذ آخر لقاء لنا، لم يكن بيننا أي إتصال. وهذا أمر طبيعي لأننا كنا نلتقي هناك في المقهى بدون موعد، دون إتصال هاتفي ونفترق دون أخذ موعد آخر. كنا نعرف جيدا متى وكيف نلتقي، كان الأمر أشبه بالعودة إلى البيت بعد يوم عمل.
دخلت المقهى بعد عام من الإغتراب عنه. لم يتغير فيه أي شيء، على الأقل من الأشياء التي تهمني : جهاز الراديو العتيق الذي يفاخر صاحب المقهى بأن جدّه إشتراه لسماع أخبار الحرب العالمية الثانية من البي بي سي، لوحة سالفادور دالي "الأفيال"، صورة "مارلون براندو" في دور "فيتو كورليوني" من فيلم العرّاب...
ولكنها لم تكن هناك. ولأنني كنت سأنتظرها بدون شك، فقد جلست إلى أول طاولة شاغرة وأنا أفكر فيما سأقوله. كيف سأبرر ذلك الغياب المفاجىء عن موعد لم نتفق عليه إلا بحكم العادة، لمدة سنوات ؟ أأقول أنني كنت منشغلا ؟ ولكن بماذا ؟
ودار السؤال الأخير في رأسي بعنف، وأخذ يتضخّم ويزداد عنفا مع كل ثانية. ولكن ليس لأنني كنت أبحث عن تبرير ما، ولكن لأنني فعلا لم أكن أعرف مالذي حصل في الواقع. ربما إلى حد ما تحول لقائي بها إلى معركة خاسرة. لا أعرف، ولكن الأمر وارد، فنحن الرجال لا نتقن الخسارة مع النساء، وحين نخسر، لا نعترف بالخسارة إلا حين نخسر كل شيء. كاذب الرجل الذي يقول أنه ليست لديه عقدة تفوق تجاه النساء. كاذب. أو قدّيس.
كنت حينها، في ذلك الوقت العصيب من حياتي، إنسانا وحيدا إلى أقصى درجات الوحدة، وقد بلغت الوحدة بي حدّ الإستمتاع بها ! واستمر بي الحال على ذلك شهورا، إلى أن تذكرت هذه المشعوذة الموهوبة، واشتقت إلى تحدّيها لي واستفزازها لخيالي الفكريّ. كانت مرحلة عجيبة كادت تؤدي بي إلى الإنتحار، ولكن ليس نوعا من الإنتحار الحزين البائس، بل إنتحار عقلاني رصين شديد الوضوح. كانت المسؤولية عن أشياء بسيطة، تجاه الآخرين وتجاه عملي هما السبب الرئيسي لأعدل عن هذه الفعلة. وربما كنت بحاجة لأناقشها في هذا.
لم يخامرني شك في أنني سأراها ذلك المساء. كانت قد دأبت على الجلوس في ذات المكان منذ أن كانت فتاة تدرس بالمعهد، قضت في ذلك المكان 7 أو 8 سنوات قبل أن تعرفني. مع من كانت تجلس ؟ لماذا هناك بالذات ؟ لم أكن أعرف، ولم أجرؤ على السؤال. كنت أفكر في كل هذا وأنا أحدق في كأس القهوة القادم من بعيد على الصينية العتيقة للنادلة. إبتسمت لي وهي تسلمني بضاعتي. قالت لي أنها لم ترني منذ مدة طويلة. وأجبتها بابتسامة صفراء. لكنني لم ألحظ شيئا آخر. قالت لي أنها تريد أن تسلمني طردا ينتظرني منذ شهور.
هناك لحظات في الحياة، تصبح فيها لاألوان أكثر توهجا، وتصبح فيه الشمس مشرقة حتى في منتصف الليل، ويكاد العابرون على الرصيف يرقصون فرحا وتتحول منبهات السيارات إلى موسيقى جذلة. وتوجد لحظات أخرى يتحول فيها العالم إلى الرمادي، ويصبح مثيرا للكآبة والحزن.
في تلك اللحظة التي لم أكن قادرا على توقع أي شيء مما يحدث، لم يكن العالم حولي كما هو، ولم يزد إشراقا أو ظلمة. ولكنه إختفى تماما. في وعيي بالأحداث والأشياء، إختفى الجميع، إختفت كل تلك العلاقة الواعية التي تجمع الإنسان بمحيطه. كانت هناك فوضى عارمة في عقلي وإنتظار قلق ولا شيء آخر.
تسلمت الطرد من النادلة. كان عبارة عن علبة من الورق، محكمة الإغلاق بشريط لاصق، ولم أكن قادرا على أن أعرف ما بداخله. رفعت عيني إلى عينيها، لأصطدم بنظرة حنوٍّ، أو شفقة، ولكنها كانت بدون شك نظرة تعاطف. قالت لي ما معناه أنها أضطرت لتوضيب ما بالداخل في علبة، وأنها إنتظرت طويلا لتسلمني إياها. قالت لي أيضا أنها تحس بما أحس به، فالفتاة كانت زبونتها المفضلة!
كانت تتكلم ولكنني لم أكن قادرا على الكلام. مالذي يعني كل هذا ؟ حين تركتني النادلة وذهبت، ترددت قليلا قبل فتح العلبة. كان يمكن أن يكون فيها أي شيء يمكن تصوره. وكنت لا أعرف حقيقة ما يمكن أن تتركه لي تلك المجنونة !
(24 ماي 2015)
Commentaires