لا أحد يعرفني.. ولا حتى أنا أعرفني. أنقاد وراء شخص هو سجني إلى حيث لا رجوع، وأعرف أنني لست سوى الرجل المسلسل المستسلم لما هو عليه. هذا الشخص الذي يعتقدون أنه أنا ليس سوى الوهم الذي يحملونه عني. وهو يجيب بدلا مني لأنه لا صوت لي. بل كل ما هو عليه هو نقيض نفسي. ولا أحد في خضمّ هذه الرحلة المثيرة للسخرية، إستطاع أن ينظر إليّ، وراء ذلك الأنا / الآخر الذي يغلفني. ومازلت أعرف ذلك لأنه لم يسألني أحد بعد حين أبتسم : "لماذا تتألم؟" لأنني أنزف مع كل إبتسامة، ولا أحد ينتبه لذلك. وأعرف أنني سأضحك طويلا، حين أتلقى ضربة قاتلة.
إنهم يطلقون علينا أسماء وألقاب، بعضها ذو معنى، ليستطيعوا تمييزنا. هذه الأسماء والألقاب ليست سوى وسوما، مثل تلك التي يستعملها رعاة البقر مع الماشية. لكم نحن قطيع في مخيلة أنفسنا ! لكم نحن منحطون وتافهون في "لاوعينا" الجماعي ! ننظر إلى بعضنا البعض بعين الريبة، ونخاف من بعضنا البعض حالما تغرب الشمس وتنقطع الكهرباء. ونحن بذلك نستريب من أنفسنا، ونخاف من أنفسنا، على مرآة الآخر.
أليست الحياة مجرد إنتحار بطيء ؟
أليست السعادة مجرد تعاسة تعبّر عن نفسها ؟
أليس أولئك الذين لا يجدون طريقة للعيش سوى الإمعان في المتعة والسهر والإجتماع بالأصدقاء والأخلاء، هم أشخاص وحيدون لا يستطيعون العيش بعيدا عن الآخر؟
ألست أنا الشخص السويّ لأنني ـ بطريقة ما ـ أستطيع العيش مع نفسي، وأفكاري الجنونية ؟
كنت ساذجا لأنني إعتقدت أنني مميّز. وأصبحت ساذجا أكثر حين صدّقت ذلك الوهم الذي ينتابني طبيعيا، بأن الحقيقة لا وجود لها إلا من ناحيتي. والآن وقد إكتشفت أنني، في رحلة البحث عن الموت هذه، سأختار طريقا واحدة، فقد أصبحت التراجيديا أكثر واقعية.
هذه قصّتي. لا أحد يرويها أفضل مني. عدا أنني لم أكتب عن كل شيء. ففي كل قصة حياة، تافهة كانت أو عظيمة، هناك امرأة.
عرفتها منذ سنوات كثيرة. كم سنة ؟ لا أذكر. وبقدر ما يهتم الجنس البشري بتأريخ الأحداث الشخصية وكتابتها على الجدران أو جذوع الأشجار التي لا حول لها ولا قوة، ولا دخل لها في حياتنا، بقدر ما يبدو لي ذلك مجرد تفاهة. عرفتها ولكنها لم تكن تعني لي أي شيء. كانت مجرد فتاة أخرى، لم يكن فيها شيء مميز. أو لأكون واضحا ودقيقا، لم يكن يبدو عليها أي شيء مميز. جمعتنا الصدفة ذات يوم، والوحدة بقية الأيام. كانت مدخنة شرهة ولكنني أشكر عادتها السيئة تلك، لأنه لو لم تنس ذلك اليوم قداحتها لما عرفتها.
كان يوما ممطرا. لم يكن المطر يومها رومنسيا على الإطلاق كما في أفلام القرن العشرين، بل كان يوما موحلا وكانت الريح تعصف بقسوة، وتصفّر بنغمة الساحرات في شبابيك البشر التعساء. وكنا نحن البشر الضعفاء نهرب من العواصف إلى ملاجئ كثيرة، أهمها المقاهي. كنت جالسا إلى نفسي كعادتي، وأجزم أنني كنت محطّما كعادتي، كان القلم يتألم بين أصابعي وأنا أنهال عليه أفكارا. ولكنني كنت أكتب تفاهات أخرى. كنت يائسا من كل شيء، ولم تكن لي رغبة بمعرفة أي شخص جديد.
كانت تجلس في الطاولة المقابلة. صامتة كتمثال بوذي. ساكنة مثل البحيرات. وكانت تنظر حولها باحثة، كانت عيناها تفضحان بحثها عن قدّاحة. أشرت إليها أن تستعير قدّاحتي بكل لطف، ولكن دون ابتسامة. بعد ثوان كانت تقف أمامي، وتنظر في عيني وهي تشعل سيجارتها. شكرتني ثم عادت إلى مكانها. ثم فوجئت بها تجلس إلى طاولتي. قالت لي أنها تريد أن تجلس مع شخص غريب، وأنها لا تريد مني شيئا. فابتسمت رغما عني.
بعد دقائق من التأمل أفقت على صوتها من جديد :
ـ لا تكتب إذا لم تكن قادرا على الكتابة.
ـ وماذا أفعل إذن ؟
ـ فكّر فقط. لماذا يجب عليك أن توثّق كل أفكارك ؟
ومن هناك إنطلقت رحلتي مع هذه المشعوذة. كانت نقيضي في كل شيء، عدى إدمانها للسجائر. وكنت في البداية، مثل كل أبله، أشمئز من نقيضي. كنت بطبيعتي الساذجة، شأن كل البشر الغارقين في التفاهة، لا أجد سعادتي إلا مع من يشبهونني. ولكن تنافر المغناطيس هذا أوجد للعلاقة معنى ما.
لا أعرف لماذا إلتقينا كثيرا إثر ذلك. ربما لأننا كنا وحيدين، وربما لأننا لم نكن نلتقي كرجل وامرأة، دون ضغط جنسي أو ما شابه. كنا نلتقي لندفع بعضنا البعض، لنتنافر. غريب أمر الإنسان حقا، حين يعتقد أنه يعرف نفسه. كنت أعد نفسي إنسانا متحررا، ليبراليا نوعا ما، متسامحا وواسع الآفاق. ولكن لقائي بنقيضي، جعلني أكتشف أنني متعصّب لبعض أفكاري، صلب أحيانا، وبعض أفكاري تلك ليست سوى أحكام مسبقة. كنا نتصادم كثيرا، ولكن بلباقة، وكان هذا الصّدام يمنح معنى لللقاء أكثر من أي شيء آخر.
كانت تقول لي دائما أنني شخص موهوب وطيّب، ولكنني تافه. وكان هذا أسوأ ما قيل لي في حياتي، وكانت تعرف ذلك، لأنها كانت متأكدة من أنها تدوس على نخاعي الشوكي بكعبها العالي حين تصفني بالتافه. إن كان هناك معنى يمكن أن أضفيه على حياتي حتى هذه اللحظة، بكل ما في حياتي من فوضى وأحداث سريالية، فهذا المعنى لن يكون سوى الحرب على التفاهة. ولكنها كانت تثير غيظي وتطفئ سيجارتها في دماغي بتلك الطريقة، ونوعا ما كان ذلك يعتبر إستفزازا عاطفيا بشكل أو بآخر.
لا يمكن أن تقول لشخص ما تكرهه أنه تافه إلا في لحظة غضب. أما أن تنظر إلى شخص أمامك بكل هدوء، وبابتسامة متنكرة ملتحفة بسيجارة، وتقول هذا بصوت واثق وبارد، فهو ليس بالأمر السهل أو البسيط. كانت تلك السخرية التي لا يستطيع المرء أن يأولها.
ولكنها لم تكن بهذه السادية في ما عدا ذلك. حتى حين كنت أواعد فتاة أخرى، كانت تلتقي بي كالعادة، دون مركبات، دون حتى الغيرة الطبيعية التي تحسها كل فتاة تجاه أي فتاة أخرى. وكانت تعاملني ببساطة الصديقات، وبأناقة العشيقات، ولكن بسخرية الأمهات.
وتناقضنا طويلا، لمدة سنوات، في حكمنا على كل شيء. أي شيء يمكن أن يخطر على البال. كانت حواراتنا السياسية طويلة، ولكنها لم تكن عميقة أو أكاديمية. كانت تنتصر لأي توجه سياسي يناقضني. كانت تتحول بين اليسار واليمين بطريقة عجيبة، وكنت أقول لها أنها لا تفعل هذا سوى لتغيضني. كانت تسخر مني دائما وتقول أنها تناقشني في السياسة إنطلاقا من أنها لا تؤمن بالسياسة أصلا.
وبطريقة سلسة، بسيطة وهادئة، افترقنا. وهذه هي أعجوبة الحياة. إنها تفعل فينا الكثير، وتغير كل شيء حولنا بدون أن نشعر. لعل ذلك بسبب أننا نسعى أولا لتأمين بقائنا البيولوجي قبل أي شيء آخر. ولعل هذا ما جعل العمل أهم الأنشطة الإنسانية، فهو الوسيلة المعقلنة والمنظمة لضمان البقاء. بعد البقاء والحاجات البيولوجية تأتي الكماليات، مثل الثقافة والفكر والفن والصداقة. ولكم أتأسف لقول هذا، ولكن الطعام والجنس سيبقيان دائما أولوية الأولويات.
(16 ماي 2015)
Commentaires