مازال التشويق متواصلا في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث عواميد الدخان تتصاعد في أماكن وتختفي في أخرى. الوضع في سوريا تحول إلى ما يشبه الحرب الإقليمية الفوضوية بين 4 أو 5 أطراف أساسية، ويعزى هذا التحول من المواجهة الثنائية إلى طبيعة التحالفات على الأرض. ففي حين يصمد التحالف بين نظام بشار وإيران وحزب الله وروسيا، فإن مقاتلي المعارضة أصبحوا في وضعية معقدة مع تمايز كبير بين قوة الثورة الأساسية السورية وهي الجيش الحر السوري، الذي تنظم في ما يشبه التنظيم العسكري ذي الصبغة العلمانية، وبين التنظيمات المستوردة بالإتفاق مع المحور الخليجي ـ الأوروبي ـ الأمريكي كجبهة النصرة ومجموعة المقاتلين الجهاديين من دول شمال إفريقيا.
وإزداد هذا الإنقسام بظهور واضح لنوايا حكم ذاتي كردي في سوريا، ويعزى هذا الظهور المفاجئ وسط الأزمة للقوميين الأكراد إلى إستخلاص للعبر من الوضعيتين التركية والعراقية، حيث في تركيا ورغم الحكم الطويل للمؤسسة العسكرية العلمانية فإن الأكراد لم يحققوا شيئا يذكر حتى في الإعتراف بثقافتهم، في حين أن تنظمهم وإنضباطهم وراء شخصية سياسية متوافق عليها مثل البارزاني في العراق جعلتهم الأقلية الأقوى في المنطقة برمتها.
بالنسبة لسوريا فإن السيناريوهات متعددة وأهم نقطة للتغيير في صفوف المعارضة هي إيجاد حل جذري للتلوث الجهادي المستورد إلى الثورة السورية. لا بد من فك الإرتباط بقطر والسعودية في هذا الموضوع، وهما الدولتان اللتان لا تملكان من أدوات المناورة سوى التلاعب بالجهاديين السنة.
أما بالنسبة للوضع في مصر فإن اللعبة أصبحت أكثر تعقيدا. فبعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، أصبحت المواجهة بين الإخوان المسلمين والجيش أمرا محتوما. وإحقاقا للحق، فإنه حين يقوم رئيس في دولة ديمقراطية بالخروقات والتجاوزات التي قام بها مرسي، تقوم المحكمة الدستورية بعزله وتتم الدعوة لإنتخابات مبكرة. وفي نفس الوقت، لا أحد يستطيع أن يكون ضامنا لنزاهة التوجه الذي إتبعه الجيش حيث أن الجيش كان دائما مهيمنا على السياسة في مصر.
أن تنحصر اللعبة في مصر بين الجيش (الذي لا يمكن أن نصفه بأنه علماني كما في تركيا، ولكن هو جيش مدني ذو تقاليد قومية) وبين التيار الإخواني لهو شيء مثير للسخرية والأسف حقا. وهنا يكون السؤال المطروح : أيهما أفضل، ديكتاتورية الإخوان أم ديكتاتورية الجيش ؟
كنت ممن يعتقد أن مصر يمكن أن تعيش تجربة ديمقراطية ناجحة. والسبب هو وجود أقليات دينية كبيرة (الأقباط) ومعرفة الشعب المصري بتاريخ المواجهة بين الدولة المدنية والإسلام السياسي في القرن العشرين في مصر. إتضح لي فيما بعد أنني كنت متفائلا زيادة عن اللزوم، وأنني كنت جاهلا بحقيقة الشعب المصري، أو بما يسمى مصر العميقة. لا يبدو أن شخصا ما يعتقد أن المعارضة التاريخية العلمانية الليبرالية أو اليسارية قد يكون لها موطئ قدم في الحكم، فقدر مصر في مخيلة أبنائها لا يخرج عن ثنائية القومية العربية والإسلام السياسي. ولهذا فإن حركات كانت قيادية في الثورة المصرية كحركة 6 أبريل وفي مواجهة نظام مبارك كحركة كفاية لا قيمة سياسية لها إلى الآن مادامت خارج الثنائية المذكورة آنفا.
الوضع التونسي يلتقي في نقاط كثيرة مع الوضع المصري، لكن إختلافات معينة بينهما تجعلني متأكدا من أن السيناريو التونسي سيحسم بطريقة مختلفة تماما.
أولا لأن حركة النهضة أصبحت تعاني من العزلة ومن شبح المعارضة التي تتغول، بالإضافة إلى أن سياستها العرجاء جعلت أغلب الأطراف في المجتمع ضدها (إتحاد الشغل، إتحاد الأعراف، رابطة حقوق الإنسان، نقابة الصحفيين، نقابة المحامين، جمعية القضاة).. فالمواجهة ليست بالضرورة مواجهة عنيفة كما في مصر.
ثانيا لأن حركة النهضة أدركت الحكم في ظل تحالف مع طرفين علمانيين. ومهما قيل عن هذا التحالف، فإن التنازلات التي قدمتها النهضة لتقديم نفسها كحركة ديمقراطية لهذين الطرفين جعلتها رهينة توحيد مواقفها معهما. ورغم أن المؤتمر من أجل الجمهورية يتفادى مواجهة النهضة سياسيا في أغلب الحالات، فإن التكتل المتذبذب بين إرادة السلطة وأيديولوجيته المعارضة لأغلب توجهات الحركة الإسلامية جعلته نوعا ما "غير مضمون".
ورغم كل هذه التعقيدات فإن المعارضة ـ التي هي في الحقيقة معارضات ـ مازالت لا تجد نقاط إلتقاء تجعلها تكون جبهة موحدة في مواجهة الترويكا، خاصة من طرف أقصى اليسار. وحتى حين رفعت الإغتيالات التي إستهدفت الجبهة الشعبية من شعبيتها وقربتها من الأطراف المعارضة الأخرى، فإن قوى أقصى اليسار مازالت تمارس السياسة بنفس الراديكالية المعهودة من قبل. ورغم أن اليسار التونسي يعتبر مسالما مقارنة بنظرائه في الدول الأخرى، فإن هذه الراديكالية في المواقف والتصريحات مازالت تقلق كثيرا الأطراف التي تريد التعامل مع الجبهة الشعبية.
الدروس التي يمكن إستخلاصها من كل هذه الثورات المستفحلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي أن :
ـ إنتقال الثورات إلى مرحلة المواجهة المسلحة ليس بالضرورة مفيدا للثورة بل قد يكون له تأثير سلبي، سوريا وليبيا نموذجا.
ـ لا بد من أن يفهم المواطن العربي البسيط أن إسقاطه لطاغية وتعويضه إياه بطاغية آخر هو تعميق للمشكلة وليس حل لها مهما كانت أيديولوجيا هذا الطاغية، مصر نموذجا.
ـ الإعتقاد بأن الفوز بالإنتخابات يعطي شرعية وحصانة مطلقة هو إعتقاد ساذج وقد يؤدي إلى إسقاط النظام عن طريق المنظمات الإجتماعية والنقابات. أهم أسس الشرعية هي تقديم بديل ناجح.
ـ إنقسام المعارضة هو سبب لضعفها وتوحدها عن تريق تقديم تنازلات هي أفضل أسلوب لقيادة الثورة ضد أنظمة شمولية.
ـ إقحام المتطرفين في هذه الثورات هو إعدام لها، سوريا نموذجا.
Commentaires