الشرق الأوسط حاليا هو ملعب تلعب فيه أعقد لعبة إستراتيجية في التاريخ. هذا المقال ليس سردا للأحداث ولا وصفا للحقيقة كما هي، وإنما الأهم هو أنه يطرح أسئلة لا بد من طرحها، ويذكر أحداث لا يجب نسيانها.
لمن له إطلاع على تاريخ المنطقة الحديث والمعاصر، لن تكون جديدة حقيقة أن إسرائيل، خارج نطاق صراعها مع الفلسطينيين، لا تأثير لها عسكريا في أزمات أخرى. منذ نشوء الدولة اليهودية في أواخر الأربعينات وهي تتفادى عن قصد الصراعات التي لا تعنيها. هذه السياسة العسكرية الإسرائيلية لها أسباب واضحة : لا تقحم نفسك في مالا يعنيك وأهم من ذلك، لا تخلق جبهة قتال جديدة غير ضرورية. حتى أزمة قناة السويس سنة 1956 كانت تعني إسرائيل بدرجة كبيرة، لأن تأميم القناة كان يعني بوضوح غلق منفذ تجاري وعسكري ثمين. لكن إسرائيل، رغم إنحيازها إلى كتلة الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة في حربها الباردة ضد الإتحاد السوفياتي، كانت دائما تتحاشى حتى التصريحات الناقدة للدول الشيوعية.
إذن ما تفسير الضربة المفاجئة التي وجهتها إسرائيل البارحة لأهداف سورية؟ من المعلوم أن إسرائيل تم منعها من دخول أزمتي العراق وليبيا من طرف إدارتي بوش الأب وأوباما. كان جورج بوش الأب طلب من الإسرائيليين ملازمة الصمت طيلة أحداث حرب الخليج المعروفة بعاصفة الصحراء في عامي 1990 و1991، رغم أن نظام صدام حسين كان يقحم إسرائيل في الموضوع بإستمرار للحصول على تأييد الشارع العربي في حال تدخل عسكري مدعوم من الأنظمة العربية إنقاذا للكويت. وقد طلبت إدارة أوباما من الإسرائيليين الإلتزام بالحياد في موضوع ما يعرف بالربيع العربي وخاصة أحداث ليبيا الشنيعة سنة 2011. ولا أعتقد شخصيا أن إدارة أوباما أغفلت هذا الأمر فيما يخص الأزمة السورية. التفسير الوحيد الأقرب للصواب هو أن إسرائيل، بغض النظر عمن سينتصر في نهاية الأزمة السورية، ليست قلقة عمن سيملك مقاليد الحكم بقدر ماهي قلقة بشأن إمكانية عبور أسلحة متطورة لحزب الله اللبناني. الإدارة الإسرائيلية تلزم الصمت الآن بخصوص ضرباتها المحدودة ـ على طريقة العمليات الجراحية ـ لأن العمل العسكري الذي قامت به له دوافع تكتيكية وليس إستراتيجية أو سياسية.
إسرائيل تعرف جيدا أن الأسد في أوج سيطرته على الوضع في سوريا غير قادر على الرد. لقد جربت ذلك بنجاح في 6 سبتمبر 2007 عندما قامت بتوجيه ضربة مفاجئة لموقع عسكري سوري في دير الزور. ربما كان ذلك إستباقا لحالة الفوضى التي طالما توقعها المحللون الغربيون في سوريا وخاصة ألكسندر أدلر الذي تحدث عن سيناريو "الثورة" في سوريا منذ 2001، غداة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، دون أن يربطه بموجة ثورات عربية كالتي نراها الآن. طبعا لا بد من أن أذكر أن أدلر كان متعاطفا مع نظام بشار الأسد ولكن حدسه بشأن الأحداث في سوريا ينبع من التناقضات الطائفية فيها.
تتحدث المصادر الإعلامية الإسرائيلية عن عمليات الطيران في سوريا هذا الأسبوع بعيدا عن الحماسة والشوفينية. المسألة حسب المحللين هي أن الفوضى في سوريا سمحت لمقاتلي حزب الله بالعمل على الأرض السورية بأريحية أكبر لتأمين شحنات إيرانية من الصواريخ الدفاعية أرض ـ جو. هذا التفسير يبدو منطقيا أكثر من إستهداف مراكز البحث العلمي العسكرية في سوريا كما يريد النظام السوري إقناعنا. ولكن يبدو أن هذه النسخة من الأحداث التي يعتمدها الرسميون في سوريا هدفها إعلامي بحت خاصة وأن الوضع العسكري لا يبشر بإنفراج قريب.
المرجح هو أن إسرائيل ليست طرفا ولن تكون طرفا في الأزمة السورية. لا يبدو أن أي شخص في الشرق الأوسط يريد دخول الإسرائيليين للعبة تكسير العظام في سوريا. وسأكون مندهشا جدا لو أعلنت الإدارة الإسرائيلية أن ضرباتها كانت قبل كل شيء مساندة للمعارضة المسلحة في سوريا.
Commentaires