شاهدت منذ أيام مقطع فيديو لأحد هؤلاء الذين يدافعون عن المشروع الإسلاموي
في مصر الشقيقة، وهو المدعو "وجدي غنيم" الذي قال بكل بساطة ما معناه أن
العلمانيّ كافر حين يطالب بالعلمانيّة في أوطاننا إلخ.. ولم أستطع المواصلة في مشاهدته
لأنه كبقيّة فيديوهات المتأسلمين ليس سوى زعيق ونهيق وسبّ وشتم وتكفير.
هذا الذي يدعي أنه عالم ـ ولو كان عالما فلا أعرف بما يمكننا وصف أينشتاين وفينمان وشرودينغر وواينبرغ
وأحمد زويل ـ لم يفهم أن الإسلام لن يصل إلى الحكم في كلّ الحالات، ولكن دغمائيته تعميه
ككلّ أمثاله. ليس هناك ممثل شرعيّ للإسلام في كلّ الحالات، وليس هناك أي سبب يجعلنا
نعطي هذا الشرف إلى دين ونمنعه عن آخر، سوى تهمّجنا ودغمائيتنا بدورنا. لن يصل إلى
الحكم سوى شرذمة لا علاقة لها بتسيير الدولة في حالة المشروع الإسلامويّ وسوف لن يضمن
لنا كلّ هذا سوى إنقلابهم على الدّيمقراطيّة كما يعرف كلّ من تابع المشروع الإخوانيّ
منذ بدايته.
طبعا لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الزاعق الناهق الذي ذكرت لجأ كغيره
من منافقي الحركات الإسلاميّة إلى بريطانيا العلمانيّة حالما أنذرته السلطة المصريّة
إلى أنه تجاوز حدوده. وقد لبث لمدّة من الزمن في لندن ثمّ طرد منها كالسّفلة لأنه لم
يصبر على سوء أخلاقه ووقاحته وشرع يحرّض مسلمي بريطانيا وخاصة المهاجرين منهم على إيذاء
الشعب الذي إستقبلهم ومكّنهم من حياة كريمة. وإن أنت أكرمت اللّئيم تمرّدا.
الغريب في الأمر هو أن مصر إلى حدود هذه اللحظة لا تزال مجرّد دولة دينيّة
سخيفة مثل ممالك أوروبا في العصور الوسطى، بل إنني أعتقد أن الشعب المصريّ أكثر تقدّمية
من القوانين التي تحكمه. أن تكون مسيحيا في مصر ليس بالأمر الهيّن، أمّا أن تتحوّل
إلى مسيحيّ فهي الطّامّة الكبرى. لا أحب أن أستطرد في هذا الموضوع وأذكر أمثلة لأنها
مؤلمة لكلّ من لم يتحجّر قلبه بتأثير المدعوذين
ـ الدعاة المشعوذين ـ ولكنني أعتقد أن بحثا بسيطا على غوغل يكفي لفهم الأمر.
من أهمّ منجزات تونس في ما بعد الإستقلال هو أنها تخلصت من تأثير المدعوذين،
فالفئة المستعدّة لخرق القانون المدني من أجل تطبيق فتوى أحد هؤلاء الشيوخ المجانين
هي فئة نادرة تماما. وما يجب أن يفهم التونسيّ هو أنّ القانون هو ما يحكم النّاس وأنّ
الدين هو شأن شخصي لا علاقة له بحقوق الإنسان وواجباته. والفتوى هي مجرّد وجهة نظر
لا تلزم إلّا صاحبها.
ليس لدي أدنى شك في أن نخبة هذا الوطن لن تتخلى عن مكاسبها لأنها تدرك
جيّدا مدى خطورة هؤلاء الأشخاص. وحتى لو أن مشروعا إسلامويا ظهر في تونس فإنه سيفشل
بكلّ تأكيد، لأن نخبة هذا الوطن كما أسلفت الذكر ليسوا جهلاء ولا تنطلي عليهم شعوذات
المشعوذين. ولكن مجرّد الجلوس في إنتظار أمثال هؤلاء ليس عملا حكيما، لأنه يجدر بنا
فهم أسباب وجودهم و ظهورهم. هناك عدّة حقائق يمكننا باعتمادها تذليل الصعوبات في رسم
صورة واقعيّة للمتطرّفين المسلمين.
إحدى أهم هذه الحقائق هي أن مجتمعنا حتى في أشدّ لحظات حداثته، لا يزال
يتعامل براديكاليّة فريدة من نوعها مع تراثه الدّيني ولا تزال القداسة تحيط بأشياء
لا ينبغي تقديسها بأيّ منطق. وهنا سأطرح مجموعة من الإختلافات مع الغرب مثلا لنفهم
سبب نجاح المشروع الحضاريّ عندهم وفشله عندنا.
السبب الأوّل هو بدون شكّ الجمود والتطرّف في المؤسسة الدينيّة، وهو في
حقيقته ليس سوى إمتداد لمشكلة أعمق أصابت دولة الخلافة في بداياتها وهي مسألة الشرعيّة،
التي كانت موضوع مزايدة دينيّة هي الأولى من نوعها. لقد تمّ إستهلاك الإسلام سياسيا
منذ البداية، وقدوم الإسلام لم يحوّل العرب بأعجوبة من همّج رعاع إلى أصحاب حضارة،
فسرعان ما ظهرت الملوكيّة في الخلافة مع الدولة الأمويّة ثم تواصلت مع الدولة العبّاسيّة،
التي كتب فيها تاريخ الإسلام المعروف كالصحيحين والتآريخ على أنواعها. ولتلخيص الفكرة
وتبسيطها أقول أن كلّ الإرث المكتوب في الإسلام كتب بعد أعمق الأزمات السياسيّة، وكمعلومة
أسوقها أقول أن الإمام البخاري ولد سنة 194 هجريّة،
أي بعد أنهيار الدولة الأمويّة وتمكّن العبّاسيين من الحكم. فأي نسبة من المصداقيّة
يمكن أن نضمنها في صحيحه؟ حتى لو لم يعمد البخاري أو غيره إلى فرض وجهة نظره فإنه سيكون
مضطرا إلى أن لا يغضب السلطة القائمة حينها وإلا لنال منها ما لا يسرّ أحدا. فالسلطة
السياسيّة جمعت معها السلطة الدينيّة أيضا لتبرير وجودها، وهي لم تتهاون في موضوع شرعيّتها
أبدا. لقد كان من الضروري أن تتجمّد المؤسسة الدينيّة لإطالة الحكم، وللأسف جائت عمليّة
التأريخ إثر ذلك.
رغم أن العهد العبّاسي شهد تزايدا في الحريّات العامة و جعل الفكر العربيّ
يبلغ عصره الذهبيّ فإن العبّاسيين لم يتخلوا عن إستراتيجيّة الجمود الديني التي ضمنت
لهم إستقرارا سياسيّا وأتاحت كلّ ما أمكن من فرص لإبادة الخصوم السّياسيين. من نتائج
ذلك تقديس نظام الخليفة المتواصل إلى الآن في بعض الأوساط، وهذا التقديس ليس سوى نتيجة
دعاية للحفاظ على العرش. قال الذهبي : "لم يصح عن الوليد [بن يزيد] كفر ولا
زندقة ، بل اشتهر بالخمر والتلوط ، فخرجوا عليه لذلك ، وذكر الوليد مرة عند المهتدي
فقال رجل : كان زنديقا ، فقال المهتدي : مه ، خلافـة آلله عنده أجل من أن يجعلها في
زنديق" والأكيد أن المهتدي قال ذلك وهو يفكّر في البقاء سالما على عرشه.
ولكن الأغرب من ذلك هو أن الوليد ألحد في شعره كثيرا، ورمى المصحف بالسهام،
ومن أشهر ما روي عن ذلك قوله :
تلعب بالخلافة هاشمي بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعني طعامي وقل لله يمنعني شرابي
هذه اللحظات المثيرة من تاريخ دولة المسلمين التي يرون في العودة إليها
وإلى قيمها حلّا سحريّا لمشاكلنا تجعلنا نتيقّن من أن التّاريخ لا يرحم أيا كان وأن
المناداة بمشروع ديني كحلّ لمشاكل إجتماعيّة وإقتصاديّة وسياسيّة ليس سوى ضرب من الجنون!
لقد فشل هذا المشروع في الدولة البدائية البسيطة فكيف سينجح في عالم اليوم خاصة وأن
له آثار جانبيّة كثيرة كاضطهاد الأقليّات وإنتهاك الحريّات الأساسيّة و إثارة الأوضاع
السياسية الإقليميّة المتدهورة بطبعها؟
السبب الثاني هو تأخرنا عن ركب الحضارة إلى حد الآن، فنحن لم نقدّم للبشريّة
شيئا ذا قيمة منذ أيّام إبن رشد. لم نتعلّم سوى إستغلال الدعاية الدينية لإطالة الديكتاتوريّات
وقتل الأبرياء وتفجير أنفسنا، ولا عجب أن يعتقد كلّ العالم أننا إرهابيّون! فنحن من
يستكثر حتى المتعة الجنسيّة على زوجاتنا فنختنهنّ في السودان ومصر! لماذا لم توجد طالبان
بوذية أو قاعدة سيخيّة أو أبو سيّاف مسيحيّ؟ لماذا الإرهاب إختصاصنا ولماذا أصبحنا
نعترف بذلك؟
نحن أيضا الشعب الوحيد في العالم الذي يقدّس مبادئ العلمانيّة في كلّ
الدول الأجنبيّة ولكنه في أغلبيّته يجرمها بين ظهرانيه، وهذا أهمّ مظهر للنفاق في الإسلام
السّياسي. لقد لاحظت شخصيّا أن الرأي العام ينظر للعلمانيين على أساس أنهم كفّار أو
قادمون من الفضاء الخارجي أو مجرّد عملاء (كالعادة) لمؤامرة صهيونيّة أمريكيّة لإخضاع
العرب (كما لوأن مشكلة الأمريكيين ليست الصين مركز الفساد الإقتصادي أو روسيا الأمبرياليّة
أو مخدّرات كولومبيا والجريمة المنظّمة) والغريب في الأمر أنهم يخطؤون في مصطلح
"علماني" ليقصدوا به "ملحد"!!
كنت دائما ما أسوق الإخوان المسلمين كنموذج على الشّر القادم من الإسلاميين،
ولكن إتضح لي أن الأغلبيّة الساحقة لا يعرفون حقيقة أيديولوجيّتهم. أنا أعتبرهم أخطر
من القاعدة على العالم والوطن معا لأنهم إنتهازيّون ينتظرون الفوز في اللعبة الديمقراطيّة
لإقامة ديكتاتوريّتهم، وهذا باعترافهم طبعا. أين هي قيم الحريّة إذن حين يحوّل حسن
البنّا خصومه السّياسيين إلى أتباع الشيطان؟ ("إن حزب الله هو الحزب المأمور بقيامه
وعكسه حزب الشيطان الممنوع قيامه") أو حين يطرح مصطفى مشهور ـ المرشد السابق للإخوان
في مصر ـ أجندا حزبه بالقول "إننا نقبل بمبدأ التعدديّة الحزبيّة الآن لكن عندما
يقوم حكم إسلامي فإننا نرفضها ولا نقبلها".
نعم أقول لكم أن الكثير من المسلمين يعتقدون أن الفقهاء هم أفهم النّاس
بأمور الدنيا وهذا هو سبب تواصل الإسلام السّياسيّ. والأمر شبيه بالقول أن لاعبي كرة
القدم هم أفقه الناس بالهندسة! لقد أثبت لنا التاريخ عكس ذلك تماما، ففقهاء المسلمين
حرّموا الخروج على الحاكم حتّى لو كان جائرا، وقرروا أن إقامة حكومة وتنصيب حاكم هو
فرض كفاية على المسلمين ـ دون غيرهم ـ إذا قام به البعض سقط عن الآخرين. وهذا هو الإستبداد
والجور بأمّ عينه.
إنهم يدّعون أن البيعة أفضل من الإنتخابات (وقد فاتهم أن البيعة تقليد
جاهلي سبق الإسلام بكثير) وأن نظام الخلافة هو الحلّ! ولنا أن نتخيّل معنى ذلك حين
نذكر هذه القصّة : فقد طلب معاوية بن أبي سفيان البيعة لنفسه وليزيد إبنه من بعده،
وقام خطيبه يزيد بن المقفّع قائلا للناس : "أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية
ـ فإن هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ فمن أبى فهذا ـ وأشار إلى سيفه".
لعلّهم ينكرون الأمويين ويدّعون شرعيّة للرّاشدين ونزاهتهم، و لكن في
الحقيقة لم يختلف الأمر كثيرا : فأوّل صراع على السلطة نشب مباشرة إثر وفاة الرسول،
في حادثة شهيرة تعرف بحادثة سقيفة بن ساعدة، وهي السقيفة التي إجتمع بها الصحابة للتوافق
على الحاكم الجديد، إلى درجة أن أبا بكر وعمر بن الخطّاب لم يشهدوا غسل وتكفين ودفن
الرّسول! (سيرة إبن هشام) ومع ظهور شقّ مضاد
لأبي بكر بقيادة سعد بن عبادة، تحوّل الأمر إلى صراع : ففرض عمر بن الخطّاب بيعة أبي
بكر بالقوّة حين حاصر المعارضين ببيت علي بن أبي طالب وهو يحمل ورجاله المشاعل وأعلن
: "والله لأحرقنّ عليكم البيت أولتخرجنّ إلى البيعة". (تأريخ الطبري)
فلنذكر أيضا ما حدث لسعد بن عبادة، الذي لم يعترف بخلافتي أبي بكر وعمر
: فرغم أنه كان زعيم الخزرج وله دور كبير في تأسيس الدولة في المدينة فإنه ذهب ضحيّة
إغتيال (تأريخ الطبري) نسبه المؤرخون المسلمون إلى الجنّ (!) في حين أنه من البديهي
إستنتاج تورّط عمر بن الخطّاب به.
ولكم يبدو هذا التاريخ غريبا وكأنّه مجرّد خيال، رغم أنه هو التاريخ الذي
كتبه المسلمون بأنفسهم! إنهم يراهنون على غبائنا ليجلبوا لنا المستبد العادل، الذي
للأسف لم ولن يوجد أبدا. سيوجد دائما حكّام في كلّ دولة دينيّة يتحوّلون إلى آلهة،
فيستصدرون فتاوى كما فعل يزيد بن معاوية تقرر أنه "ما على الخلفاء حساب أو عذاب"!
(السيوطي ـ تاريخ الخلفاء) وغير ذلك كثير، فمن يقرأ الطبري والسيوطي والمسعودي وغيرهم
من المؤرخين سيجد من أمثال هذه الحوادث الشيء الكثير. لقد بدأت أزمة الإسلام السياسي
منذ ظهوره ليلة وفاة الرسول، ولم يوجد أبدا حكم رشيد بأتم معنى الكلمة. ولا سبيل لإعادة
هذه التجربة التي فشلت في زمنها الطبيعي، ناهيك عن أزمان أخرى.
Commentaires