ولكن ما فائدة أن أقرأ لها الآن ؟ ألمجرد ذكرى وجودها التي تثير حنينا دافئا إليها، أصبح مطالبا بتحمل رسائلها المحملة بالأناركية والحقد على الحضارة والإنسان ؟ هذا الإلتزام الذي تبديه بكره كل شيء، ونقد كل شيء، وتحطيم كل مبدأ تستكين إليه نفس الإنسان، إلى حد أنني أصبحت أجزم بأن الإنسان الذكي حقا، الصادق مع نفسه حقا، والسوي حقا لن يوجد أبدا : إنه إنسان يعرف ويقر بعبثية كل شيء، ويجد في ذلك سببا للدهشة والإنبهار والإعجاب، ويقدر مع كل هذا أن يعيش حياة سعيدة.
حياة سعيدة في وسط إعصار من العدمية والعبث. أليس هذا هو تعريف الإقتصاد ؟ أليس هذا هو منية المنى للشيوعيين والرأسماليين على السواء ؟
إنها لعبة عجيبة وجدنا أنفسنا فيها. نملأ رؤوسنا بما يقال لنا، نختار من كل الهراء الذي نسمعه ما يناسبنا، نعزل أنفسنا عن من نريد ونلتحم بمن نريد، ونجد في كل ذلك السيل العرمرم من الأشياء ما نحوله لصنم الحياة، وننحت كل حياتنا على شاكلته. وفي الأثناء، نحاول إرضاء الجسد والرغبة والأنا البدائي بما يريد ويشتهي. هذه هي الحياة باختصار. إنه نظام عجيب ولكنه متكامل، أشياء تافهة كثيرة تصنع أسلوبا واضحا، سهلا و ناجعا لقضاء هذه الفسحة القصيرة من الوعي في الإنتاج والإستهلاك. هذا هو تلخيص الحياة لديها.
رميت برسائلها إلى ركن مهمل من أركان غرفتي لأهملها. لست في حاجة إلى المزيد من البؤس في حياتي، لست في حاجة إلى أفكار سوداوية أخرى وخيالات متوحشة ونهايات أليمة. كل ما أنا في حاجة إليه هو القليل من السعادة. وهذه الرسائل تقتل ذلك النزر القليل من السعادة الذي مازلت أمتلكه.
هناك أشياء في هذا العالم، بسيطة وتافهة، ولكنها تغير أفكارنا وحياتنا جذريا. وبين الواقع ووعينا به هناك وسيط هو ذلك الجهاز المعقد الذي هو الإنسان. كانت أفكار عجيبة تراودنا أحيانا حول هذا الموضوع، مثل مدى ما تبدو لنا الأحاسيس كاذبة : كل ما في الأمر هو أننا عبيد الجسد وإفرازاته الهرمونية، التي تعتمد على ردات فعل بدائية. هل نحن نمتلك أصلا أنفسنا ووعينا ؟ كل مزاجيتنا وسعادتنا وتعاستنا مرتبط بعدد محدود من المواد الكيميائية، بعضها إفرازات وبعضها يمكن تناولها كالكحول والنيكوتين والمخدرات. الإنسان هو بطريقة ما نظام سهل الخداع، شديد الحساسية والتعقيد، ويفتقد بشكل كبير للدقة في أدائه لوظائفه.
كيف يمكن إذن أن ننتظر من هذا الكائن أن ينتج نظاما إجتماعيا سليما ؟
مازالت أفكارها تجول في رأسي وأنا بعيد عن رسائلها. مزعجة هي، حتى عندما لا تكون معي.
لماذا كل هذا الحقد والكره الدفين للإنسانية والمجتمع والحضارة برمتها ؟ كنت أفهم وأتفهم الحقد على نظام سياسي أو إقتصادي معين، كنت أتفهم أحيانا حتى الحقد على جماعات إثنية أو دينية معينة، ولكن الحقد على الإنسانية برمتها ؟ الحقد على مفهوم الوجود ذاته ؟ هذا أمر عجيب حقا.
ذات ليلة، بعد أن عدت إلى بيتي لأعيش وحدتي اليومية، مع الكحول والسجائر، وجدت نفسي أفكر فيها.. ككل ليلة. كان صوت العاصفة خارجا وصفير الرياح يتناقض تماما مع دفئ الغرفة وموسيقى البيانو التي كانت ترافق وحدتي. وحملني الدفئ والسكر إلى عالم حيث لا رائحة ولا طعم.. لأجدها تجلس على طاولة مكتبي عارية متربعة، ممسكة بمسدس فولاذي شديد اللمعان. نظرت إلي ونظرت إليها. كان المسدس يقف بيني وبين تأثير جسدها الشبقي عليّ.
وضعت بكل تركيز وبطء رصاصة واحدة في بكرة المسدس، وأدارتها بلمسة سريعة. نظرت إلي وقالت "هل أنت مستعد لتلعب معي الروليت الروسية؟"
نظرت إلى نفسي فوجدتني عاري الصدر. رفعت عيني إليها من جديد لأجد فوهة المسدس العملاق تحدق في عيني اليمنى. وسمعتها تقول : هناك إحتمال واحد من ستة إحتمالات أن تموت الآن، وخمسة إحتمالات متبقية تعني أنك ستموت في أحضاني. فهل أضغط الزناد؟"
أفقت مرتعبا. كان العرق يتصبب باردا من جبيني. أحسست أن فوهة المسدس مازالت تحدق بي وأنا أبحث عن ساعتي.
الثالثة و27 دقيقة.
جلست في فراشي. أخذت سيجارة من العلبة وأشعلتها. ولشدة إضطرابي أشعلت السيجارة بالمقلوب. إشتعل صدري وانتابتني نوبة سعال وحشية. دمعت عيناي من الألم ورائحة مبسم السيجارة المحترق.
بعد دقائق طويلة تمالكت نفسي. إنتهت نوبة السعال المؤلمة. تناولت كأسا من الماء وأردفتها بارتشاف ما تبقى من الويسكي. تذكرت أن الليلة كانت ممطرة، فأصغيت لأكتشف أن العاصفة إنتهت. يجب أن أحاول النوم. غدا يوم عمل طويل آخر.
الرابعة و9 دقائق صباحا. إتخذت قرارا بالخروج إلى الشرفة. من المستحيل أن أعود للنوم بعد ذلك الحلم الرهيب. لأول مرة أجد نفسي في حلم جنسي معها. والأدهى والأمر أن هذا الحلم لم يكن فيه أي متعة، بل كان مثيرا للرعب.
ما معنى هذا الحلم ؟ إن كان لأحلاما فعلا جذور في مشاعرنا المكبوتة، لماذا إقترنت الإستثارة الجنسية بمثل تلك اللعبة المميتة ؟
جلست في الشرفة وأشعلت سيجارة أخرى. إنتبهت طبعا لكي لا أعيد نفس الخطأ وأشعل السيجارة مقلوبة. وطبعا أخذت أفكر فيها. لم يكن لدي أي خيار، فوحدتي وغرابة أطواري وهذا الحلم الغريب يحملونني إليها.
ح. ق. 5 فيفري 2017
Commentaires