"هل سيعني لك شيئا لوأنني فسرت لك بكل التفاصيل من أكون ؟ وكيف عشت ؟ وأي التجارب نحتت شخصيتي ومنحتني كل تلك العادات السيئة والجيدة التي تحدد لدى الآخرين مدى قيمتي ؟ وهل أنا مطالبة بذلك أصلا ؟ هل يجب علي أن أبرر إختلافي عن السائد وعنك أنت وعن عدد لا يحصى من الذين أعرفهم ؟"
"لقد أنتج الإنتقاء الطبيعي، سيد العالم وسبب التاريخ، أشخاصا هم الأقدر على العيش ومواجهة الحياة القاسية. إن الثقافة برمتها ليست سوى تقنية لتوحيد أشلاء الإنسانية نحو البقاء والصمود. الجنس والدين والجشع والحرب والإقتصاد والتكنولوجيا هي أسلحة البشر في مواجهة كون بارد، قاس وأعمى."
"ولكنني أعود دائما إلى السؤال الأشد بساطة وتفاهة : لماذا نواصل، نحن البشر، حربنا على العالم ؟ لماذا يجب على كل واحد منا أن يكون موافقا على هذه المهزلة، التي هي الحضارة البشرية ؟ لماذا لا نفكر خارج تعصبنا لجنسنا التافه الموغل في الحقارة والديكتاتورية تجاه العالم ؟"
"أنا شخص يرفض الثقافة، ويرفض التاريخ والسياسة والصناعة وترويض الحيوانات وتدجين النباتات. أنا شخص يرفض الإنتصار الساحق الذي إستطاع الإنسان تحقيقه على باقي الأجناس. أنا أرفض عبودية الكلاب والجياد وأرفض تحويل الحيوانات إلى منتوج. كم نحن قساة على جيراننا."
"من هذا الرفض يمكنك أن تستنتج أنني أيضا أرفض عبودية الإنسان للإنسان، والمرأة للرجل، والخادم للسيد والموظف للشركة. أرفض أي علاقة عمودية بين أي شيئين في هذا الكون. وسحقا للإقتصاد. إياك أن تقول أنني شيوعية فأنا أرفض سلطة الدولة أيضا."
"مالذي أقبله ؟ أقبل أي علاقة بين أشخاص أسوياء. ولكن أين هم الأسوياء في هذا العالم ؟ أين هم الأشخاص الذين لا يسرقون ولا يقتلون ولا يغتصبون ولو غاب القانون ؟"
"الخوف والجشع محرك هذا العالم. هذا العالم الذي يفاخر ببلوغه قمة الحضارة والرقي، لن يكون موجودا دون خوف من العقاب وطمع في الربح وفتات الموائد. لا القانون المدني ولا الأحكام العرفية ولا الدين ولا حتى القوانين الرياضية ستكون ذات معنى لو لم تكن فيها عقوبات."
هذه الفوضوية تحرق أفكاري وسجائري بسهولة. كانت الأناركية تعبق من كل كلامها. كل حديثها قبلا كان يحمل تلك البراءة وذلك الصفاء الواضحين، ولكن حين يشتد النقاش بيننا وتدق عقولنا طبول الحرب الفكرية، كان الحقد ينبع من كل ما فيها : نظراتها، كلماتها، حركاتها، إرتجاف شفتيها وإرتعاش أصابعها…
ليست المعركة بيننا معركة حجاج، بل كل ما في الأمر أننا نختلف كثيرا. كانت لا تؤمن أصلا بالجنس البشري والحضارة الإنسانية، وتستشهد بالحروب والدمار وكل الشرور التي صنعها البشر. وكنت عكسها، أدافع عن الجنس البشري وإن كنت لا أقول أنه خيّر بطبعه. كنت أقول أنه يفعل ما يستطيع ليستمر، مثله مثل كل الكائنات. كنت أقول أن وجودنا هنا كبشر لا يمكن أن نفكر فيه بمنطق الخير والشر.
كانت حربا وجودية. كانت تنعتني بالجبان وكنت أنعتها بالمجنونة، والأسوأ أننا كنا نقهقه حين نفعل ذلك. كنا نعرف أنها حرب لن توجد خارج الطاولة التي نجلس إليها معا.
ولكن كان ذلك الحوار له تأثير كبير في نفسي، فعند معرفة شخص متطرف تصبح الأمور أكثر تجريدا، ويصبح الحكم الأخلاقي أكثر صعوبة. تلك المجتمعات المتجانسة التي لا تشعر فيها بالأقليات، وخاصة تلك المجتمعات التي ترزح تحت حكم ديكتاتوري لا مكان فيه للآخر، هي المجتمعات الأفشل والتي لن تنتج بالنهاية سوى أشخاص أحاديي البعد. أشخاص لا يستطيعون العيش بدون ظل الأحكام والقوانين وأرواح شيوخ القبيلة.
ولكن لن أنكر أبدا أن وجهة نظرها كانت واضحة : فنحن سرطان هذا الكوكب، ولا أعتقد أن أي شكل آخر من أشكال الوعي في هذا الكون يستطيع أن ينكر ذلك. فهل يجب أن ندمر كل ما صنعناه لنسالم الطبيعة والأرض ؟ هل يجب أن ننهي الصناعة والتسلح والفلاحة والصيد ونعود لقطف الثمار من الغابات لكي نصبح متحضرين في عيون الطبيعة ؟
أي مأزق نحن فيه بوجودنا هنا على هذا الكوكب ؟
Commentaires