"هل سمعت أو شاهدت أو حتى قرأت لامرأة ميتة تتحدث عن نفسها؟ هل تعرف مدى الألم الذي تحسه امرأة سعيدة؟ إن كان الرجل قد خلق ليطارد اللذة، فالمرأة خلقت لتعيش الألم، ولكن المرأة التي تتألم كثيرا تتحول إلى كائن قبيح ومزعج. تماما مثلي. وأنا أعترف بذلك لأنه لم يعد مجرد ألم، بل أصبح الألم جزءا مني. "
" هناك توازن طبيعي لا غنى عنه لدى المرأة، وهو ما بين الألم والأمل. إياك من الإخلال بهذا التوازن، فقد ينتج مسخا لا تقوى حتى على النظر إليه."
لم أكن يوما من هواة التداعي الحر في الكتابة، بل كان هذا النوع من الإبداع يقلقني كثيرا، ويصيبني عادة بالإحباط والضجر. أصلا هو أسلوب لا يصلح لقول أي شيء مفيد، ولا ينفع إلا في حالات السوداوية والإكتئاب. كنت أفضل دائما الكتابة الأكاديمية المنظمة كساعة سويسرية. تلك المقاطع الأدبية التي لا يمكن أن تكتب أحسن مما كتبت.
ولكن هذه الرسائل العبثية التي لا أجد لها تفسيرا بعد، أصبح لها فجأة معنى وقيمة. والآن حين أراجع نفسي، بعد أشهر من حصولي عليها، أكاد أجزم أن السبب وراء هذا المعنى والقيمة هو ما كنت أفهمه أنا، وليس ما كانت تعنيه هي. لو لم أكن معنيا بهذه الرسائل لما وجدت فيها أي شيء ممتع.
الفوضى في التفكير، في الجدال، في الكتابة والفن ليست مجرد موضة، ولكنها نوع من التشفير. نوع من تحويل المعنى الشخصي إلى فكرة أو أفكار. ولكن مهما أنكرنا، فالفوضى هي ما يحكم هذا العالم. وكل حياة الإنسان ليست سوى محاولة فاشلة للإنتصار على هذه الفوضى.
وهذه الفتاة النسوية العجيبة التي تكتب لي، في الماضي، رسائل لأقرأها وأنا في الحاضر، باحثا عن سر إختفائها من حياتها المعتادة، ومقهاها المعتاد، ورفقتها المعتادة، هل هي على صحة نفسية جيدة ؟ هل أنا أبحث عن المعنى بقسوة وسط خربشات لا معنى لها ؟
ألست أفعل ذلك أيضا كل يوم مع أشياء أخرى ؟ فلماذا لا أتحمل رسائلها أيضا علّها تكون بديلا أفضل لما يسميه الناس ثقافة هنا، وهي منتجات غارقة في الإنحطاط والسفالة والنذالة ؟
أصبحت أقرأ ببطء أكثر، وبحذر. كنت في تلك المرحلة العجيبة من حياتي، ألتهم الكتب إلتهاما، كان الكتاب العادي يصمد لمدة أقصاها أسبوع قبل أن يبوح لي بكل أسراره وخفاياه. كنت أعيش تلك المرحلة التي لا يعيشها كثيرون، حين لا يقف بين الإنسان والعبثية سوى الكتب والجعة والسجائر.
ولكنني أصبحت أخشى مع هذه الرسائل الغريبة، الموغلة في السوداوية والميلانخوليا، أن أكتشف حقيقة مفزعة لا أستطيع تحملها. أولئك الذين لا يعرفون هذا الشعور مع القراءة يعرفونه حتما مع أفلام الرعب، حين ينتابك قلق وجودي وألم بالمعدة وتتحفز خلايا جسدك كلها كما لو كانت ستهرب منك في أية لحظة.
"لا أعرف متى ستحصل على هذه الرسائل، ولا حتى إن كنت ستحصل عليها حقا. لكنني آمل ذلك، فأنا أستعد لرحلة طويلة الآن. أعرف أن ما أقوله يبدو مفزعا كما لو كان رسالة إنتحار ولكنني لن أنتحر. بالعكس، كل ذلك الحزن والتعاسة والألم الذي عشته في حياتي جعلني أتوق أكثر إلى الحياة، لا إلى الموت."
هذا خبر جيد على الأقل، فهي لن تنتحر، وهو أهم خطر قد يتهدد حياة هؤلاء. وحين أقول "هؤلاء"، فأنا أقصد نوعا من الأشخاص يبدون "فكرا حرا"، ينتفضون ضد كل أنواع السلطة في العالم (كنوع من إيجاد التوازن مع حقيقة أنهم يخضعون في الواقع لسلطة أو سلط أخرى)، فوضويون وعادة هم ضد كل ما هو تقليدي، ولكنهم يحملون شخصيات عاطفية جدا ورقيقة شديدة التأثر ولا أعرف لماذا يبدون لي في النهاية أطفالا بنفس طيبة وأنانية وبراءة الطفل.
ولكن هذا العالم لا يرحب بالأطفال، بل في أفضل الحالات يمنحهم هدنة حتى يصبحوا كهولا.
"إنه عالم من العبيد لا قيمة فيه إلا لما له قيمة. وإن كان هذا يبدو لك مجرد هراء، فهو كذلك. أعرف أنك تحك أنفك وتقول لنفسك أنني عدت إلى فوضاي اليسارية المحافظة، وقد أكون فعلا كذلك، ولكن ذلك أقصى نقد قد تستطيع توجيهه لي وأنت تعلم جيدا أن العالم الذي يلهث وراء القيمة لا قيمة له."
Commentaires