"تبا."
كانت الكلمة الوحيدة التي كنت قادرها على ترديدها لعدة مرات وأنا أفتح الطرد الذي تسلمته للتو : كانت عبارة عن قداحة وعدد من الرسائل المغلقة وقد كتب عليها تاريخ. كانت النادلة قد جمعتها بكل أمانة وكتبت عليها بقلم رصاص تاريخ تسلمها. بحركة لا واعية حاولت إشعال القداحة ولكنها كانت فارغة.
أحد عشر رسالة، وقداحة. وصفة كاملة للأرق، خاصة أنني أعرف جيدا أن رسائلها طويلة جدا.
"إياك أن تفهم شيئا لا أعنيه مما ستقرأه في رسائلي هذه. أنا لا أغازلك برسائلي هذه، ولو كنت أريد ذلك لفعلت. أنت أكثر من يعرف أنني أعني ما أقوله، وأتمنى أن لا تكون غبيا كغيرك من الرجال."
أهو الغرور أم الثقة بالنفس؟ لم أكن أعرف، ولكنني متأكد تماما من أنها كانت بطريقة أو بأخرى قادرة على قول كل ما تريد، ولو توجب ذلك إختراع كلمات جديدة بإحدى اللغات الكثيرة التي تتقنها.
"أعرف تماما، ككل النساء اللواتي يملكن دماغا يعمل، أنني أظلمك لو أتوقع منك، كرجل، أن لا تكون غبيا. قليل هم الرجال الذين يستطيعون التفكير أمام شقراء عارية. لست ألومهم على ذلك فالخطأ ليس خطأهم، ولكنني أحتقرهم من أجل هذا الضعف العجيب أمام الجنس. ولكن حتى لو حاولت وتمالكت نفسك فلن تستطيع أن تفهم كل شيء."
"أنا إمرأة عجيبة، وحيدة وحزينة، وإياك أن تقع في حب إمرأة من هذا النوع. إبحث عن إمرأة غبية وسعيدة تصدق كل ما قيل لها منذ الطفولة، إمرأة لا وجود لها خارج علاقتها بالرجل، إمرأة مطيعة مثل السيارة، او جهاز الراديو، أو كلاب الصيد. إياك أن تقع في حب إمرأة تستطيع أن تكتب عما تحس به."
"أعترف لك أنني أعرف أنك ذكي بما يكفي لتفهم أنني، حين قلت أنني لا أغازلك برسالتي هذه، نادمة كثيرا لأنني لم أغازلك حقا، وأنني أمر بمرحلة إنكار جنونية. ولكنني شجاعة بما يكفي لأقول لك الحقيقة من المنظور الأنثوي، تلك الحقيقة التي لا يفهمها الرجال الأغبياء : وهي أنه لا وجود للحقيقة، وأن المرأة تحب وتكره الشخص ذاته بنفس القدر. لعل بعض النساء يجدن سعادتهن في الإرتباط بمن يكرهن!"
"تبا لك. أعرف أنك تقرأ مبتسما لوقاحتي التي تحبها. سأكتب لك غدا فأنا حزينة بما يكفي اليوم. لا تسأل عن العلاقة بين الأمرين فمجرد الكتابة لك تشعرني بالحزن."
هل هناك شيء ما يجبرني على أن أقرأ هذا الهراء ؟ هل من الحكمة أن أضيف لغزا آخر إلى حياتي التي لا تلخيص لها سوى أنها سجن من الألغاز، بداية من هذه الحياة العبثية التي لا يميزها عن حياة الجراثيم وكلاب البحر وطيور النورس سوى ذلك العذاب الرهيب الذي نواجهه على مستوى الوعي بالأشياء والذكاء المحدود الذي يكفي للأسف الشديد لندرك حجم المأساة التي نفيق كل يوم لنعيشها، وصولا إلى الوحدة القاتلة التي يعيشها كل من يمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة هذه العبثية وتلك المأساة ؟
أنا أعرف جيدا أنها إن كانت تتقن شيئا ما فهو بالتأكيد إستفزازي وإحراجي. إنها أنثوية إلى درجة التطرف، وقد كانت تعيب على سيمون دو بوفوار وقوعها في حب جون بول سارتر لأنه إعتراف منها أنه يوجد في العالم رجال جيدون! وكانت تقهقه بطريقة مفزعة حين تذكر هذا الأمر جعلتني أحيانا أتساءل إن لم تكن هذه المجنونة سوى سحاقية تنتظر الفرصة المواتية لتنتقم من الرجل الأقرب إليها، بسبب مشاكلها الأبوية. لن تكون مفاجأتي كبيرة لو إقتحمت إحدى الفتيات المجنونات المقهى وإنهالت عليها بالقبل.
ولماذا تترك لي قداحة ؟ أنا أعرف جيدا أنها لا تفعل أشياء بدون معنى. قد تفعل أشياء مجنونة وغير متوقعة، ولكنها في النهاية ليست إعتباطية. وهذا ما يجعلني أخشى قراءة الرسائل العشرة المتبقية. قد تسر لي بجريمة بهذه الرسائل، أوربما بحبها لي، أو باعتزامها الإنتحار! وقد لا يكون إنتحارها حزينا فعلا ولكنه مرعب، مرعب لأنني أتوقع جازما أنها لو إتخذت هذا القرار، فسوف تفعل أشياء عجيبة قبل أن تنتحر.
Commentaires